كثيراً ما ترد تساؤلات حول المنتجات ذات السمعة الحسنة والمنقوشة عليها عبارة “Made in Japan”، (صنع في اليابان). حيث أصبحت نادرة أو غير متوفرة إطلاقاً في العديد من الأسواق العربية. نسلط الضوء على أسباب التغير الحاصل في هذا المقال.
تراجعت سمعة الشركات اليابانية في السنوات الأخيرة بسبب فضائح مثل تزوير البيانات في شركة “كوبي ستيل” وتويوتا وغيرها. قد تعكس هذه الفضائح جهود الحكومة لتحسين الحوكمة. لكنها تكشف أيضًا عن صعوبات الشركات اليابانية في مواكبة معايير الامتثال الحديثة وسط تقلص السوق المحلي وزيادة المنافسة العالمية. ما أجبرها على التوسع وخفض الأسعار! المنافسة العالمية المتزايدة أجبرت الشركات اليابانية على خفض التكاليف (عبر إنشاء مصانع خارج اليابان للاعتماد على العمالة الأجنبية لدفع أجور أقل) وزيادة الكفاءة لتحقيق أهداف الإنتاج، وفقًا للمحامي موتوكازو إندو. فالنظام الصناعي لشركات صناعة السيارات اليابانية المعروف منذ عقود طويلة، تراجع مع تحول السوق إلى المنافسة. حيث قللت شركات السيارات استثماراتها في الموردين ومتابعتها للإنتاج، بحسب المستشار هيتوشي كايسي. إضافة لذلك، عانت اليابان من نمو اقتصادي ضعيف لعقود بسبب الانكماش السكاني والتضخم والمنافسة الآسيوية. مما أضعف قدرة الشركات على المنافسة، وفقًا للبروفيسور هيدياكي مياجيما.
قائمة الشركات المصنعة المتورطة تطول باستمرار
اضطرت شركة نيسان إلى استدعاء جميع السيارات الجديدة التي باعتها في اليابان خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب مشاكل تزوير فحوصات السلامة. كما واجهت سوزوكي و ميتسوبيشي فضائح تتعلق باختبارات كفاءة الوقود. بالإضافة إلى مخالفات من “تاكاتا” و”تويو تاير” المخصصة للإطارات، و”أساي كاسي”. وقال الخبير هيروشي أوسادا إن التركيز على تحقيق الأهداف دفع بعض الشركات إلى التلاعب عند فشلها. أضاف المحامي نوبو غوهارا أن قواعد الامتثال أصبحت أكثر صرامة. لكن بعض الشركات ما زالت تعتمد ممارسات قديمة. وأشار البروفيسور توماس كلارك إلى أن اليابان قد تتراجع مع تقدم معايير الجودة في الاقتصادات الآسيوية الأخرى، بما فيها الصين.
عبارة “صُنع في اليابان” كانت مرادفًا للموثوقية منذ زمن. فلماذا تراجعت البلاد في صناعات تقنية رئيسية مثل أشباه الموصلات (semiconductors)؟
تمتعت المنتجات اليابانية سابقًا بسمعة عالمية قوية لجودتها ومتانتها. وذلك بفضل قدرات الشركات اليابانية الكبيرة في التكنولوجيا والتطوير. كانت هذه الشركات تعتقد أن تقديم منتجات جيدة سوف يجذب المستهلكين تلقائيًا. لهذا السبب، اعتبر الناس المنتجات اليابانية موثوقة وقليلة الأعطال. وكانت العلامات التجارية اليابانية مثل سوني، نيكون، باناسونيك، و كانون مرادفة للفخامة. ومن المعروف أن ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل، استلهم شركته من سوني.
العمر الطويل لمنتجات عملية عالية الجودة
حاليًا، يُتوقع أن تكون الأجهزة الكهربائية قصيرة العمر نسبيًا. وقد حددت مؤتمرات التجارة العادلة للأجهزة المنزلية، بإشراف وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة، لقد تم تحديد مدة احتفاظ أدنى بمكونات الإصلاح. على سبيل المثال، يتم توفير مكونات إصلاح التلفزيونات لمدة 8 سنوات فقط، وبعدها لا يكون المصنعون ملزمين بإصلاح المنتج.
مشكلة الثقة الزائدة
واجهت عدة شركات يابانية صعوبات، مثل شركة شارب التي كانت رائدة في تصنيع تلفزيونات LCD قبل أن تتجاوزها شركات كورية جنوبية وتايوانية، وانتهى بها الأمر بالاستحواذ من شركة تايوانية. كما فشلت شركة توشيبا في قطاع الطاقة النووية بعد استحواذها على شركة “ويستينغهاوس إلكتريك” الأمريكية، مما أجبرها على بيع قطاعاتها القوية التي كانت تدر أرباحاً لها. المشكلة المشتركة بين هذه الشركات كانت الافتراض المفرط بالثقة أن تقديم منتجات جيدة بتقنيات جديدة سيكفي لجذب المستهلكين، مما أدى إلى إهمال تحليل المنافسة الخارجية والأسواق المتغيرة.
استراتيجيات فاشلة في الأسواق الناشئة
في الماضي، كانت إعلانات شركات يابانية مثل باناسونيك و كانون منتشرة على لوحات المطارات في آسيا وأمريكا اللاتينية. لكنها استُبدلت لاحقًا بإعلانات شركات كورية جنوبية. رغم دخول الشركات اليابانية الأسواق الناشئة منذ سنوات، إلا أنها تأخرت في تحقيق نتائج ملموسة، مما سمح لمنافسين من دول أخرى بتجاوزها.
١) كارثة من الشرائح المتوسطة والمنخفضة
بينما ركزت الشركات اليابانية على المنتجات الفاخرة، استهدفت الشركات الكورية الجنوبية الشرائح المتوسطة والمنخفضة المطلوبة محليًا. على سبيل المثال، فشلت شركة يابانية في دخول سوق يعتمد على تلفزيونات أنبوب الكاثود لأنها ركزت على التلفزيونات الحديثة ذات الشاشات المسطحة التي لا تلبي الطلب المحلي.
٢) التردد في الاندماج والاستحواذ
افتقرت الشركات اليابانية للخبرة في عمليات الاندماج والاستحواذ، خاصة عبر الحدود (خارج اليابان)، مما أدى إلى صفقات غير واضحة الأهداف. على عكس نظيراتها الغربية التي استحوذت استراتيجيًا على شركات رئيسية في الأسواق الناشئة، كانت الشركات اليابانية أقل كفاءة في هذه الاستراتيجيات التي تضمن نموها على المدى البعيد.
٣) ضعف الالتزام
دخلت الشركات اليابانية الأسواق مبكرًا باستثمارات محدودة، بينما استثمرت الشركات الكورية الجنوبية بشكل كبير لاحقًا وقدمت منتجات تلبي الطلب المحلي.
٤) نقص المواهب
ركزت الشركات اليابانية على توظيف مواردها البشرية في الدول الغربية المتقدمة بدلًا من الأسواق الناشئة. كما تأخرت في تكييف أنظمة الرواتب والترقيات للموظفين المحليين وذلك وفقاً لتقرير رسمي صدر عام 2012. ومع مرور أكثر من عقد على هذا التقرير، إلا أن الشركات اليابانية دفعت ثمنًا باهظًا لتراجعها، متأخرة عن منافسين جدد رغم ريادتها السابقة.
إحياء صناعة أشباه الموصلات في اليابان
البيئة الحالية حول الشركات اليابانية صعبة جدًا. هل ستستعيد مجدها السابق؟ يعمل القطاعان العام والخاص في اليابان معًا للبحث عن فرص جديدة في صناعة أشباه الموصلات. كانت اليابان تهيمن على سوق أشباه الموصلات عالميًا في الماضي. في عام 1988، كانت اليابان والولايات المتحدة تمثلان 50.3% و36.8% من حصة السوق العالمية على التوالي. ومع ذلك، بعد اتفاقية أشباه الموصلات بين اليابان والولايات المتحدة عام 1986، زادت حصة أشباه الموصلات المستوردة في السوق اليابانية من 10% إلى 20%، مما أدى إلى تراجع تنافسية الصناعة اليابانية. اليوم، تهيمن شركات مثل TSMC التايوانية وSamsung الكورية على إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة.
مصانع أشباه الموصلات في كوماموتو
تستعد شركة TSMC التايوانية وسامسونغ الكورية الجنوبية وإنتل الأمريكية لإنتاج رقائق بحجم 2 نانومتر بحلول 2025. بينما لا تزال اليابان تعتمد على تقنية 40 نانومتر. أكملت شركة JASM، بالشراكة مع TSMC وسوني ودينسو وتويوتا، بناء أول مصنع لها في كوماموتو. وبدأت إنتاج رقائق بين 12 و28 نانومتر. كما يجري بناء مصنع ثانٍ لإنتاج رقائق بين 6 و12 نانومتر بحلول 2027. بلغ الاستثمار الإجمالي للمشروع 3 تريليون ين، بينها 1.2 تريليون ين من الحكومة اليابانية.
مبادرات حكومية واعدة
تخطط شركة “رابيدوس”، التي أسستها الحكومة اليابانية باستثمار قدره 920 مليار ين، لبدء إنتاج رقائق بحجم 2 نانومتر في أبريل 2027. تدعمها شركات مثل سوني، تويوتا، دينسو، وNEC. يتطلب المشروع تمويلًا إضافيًا بقيمة 4 تريليون ين، وتستخدم تقنية طورتها IBM عام 2022. إذا نجحت “رابيدوس”، قد تستعيد اليابان مكانتها، رغم أن شركة TSMC التايوانية تمتلك تقنية 1.6 نانومتر، والشركات الكبرى تخطط لإنتاج 1 نانومتر بحلول 2026–2027.
نظرة مستقبلية
تراجعت صناعة أشباه الموصلات اليابانية بعد أن كانت رائدة عالميًا. تسعى الحكومة والصناعة الآن لاستعادة مكانتها عبر مشروعي مصانع جديدين. نجاح اليابان يعتمد على تطوير تقنيات تتجاوز حاجز 2 نانومتر. ورغم الاستثمارات الكبيرة، يبقى القلق من قلة نجاح المشاريع الحكومية السابقة. وحتى يستعيد المنتج الياباني مجده و وفرته في الأسواق كما اعتادها المستهلكون في القرن الماضي، لابد من الخروج من الحلقة المفرغة. ولا يمكن الخروج من الحلقة المفرغة إلا من خلال ما يلي:
التركيز على الابتكار: يجب على الشركات اليابانية الاستمرار في الابتكار وتطوير منتجات جديدة ذات قيمة مضافة عالية.
التكيف مع التغيرات: يجب على الشركات اليابانية أن تكون مرنة وقادرة على التكيف مع التغيرات التكنولوجية والاقتصادية السريعة.
الاهتمام بالجودة: يجب على الشركات اليابانية الحفاظ على سمعتها في مجال الجودة، والعمل على تحسينها باستمرار.
التعاون الدولي: يجب على الشركات اليابانية تعزيز التعاون مع الشركات العالمية الأخرى، وتبادل الخبرات والمعرفة.