عادةً ما تفضي الهزيمة في حرب كبرى إلى تحوّل جذري في المجتمع قبل التفكير في إعادة الإعمار. كان هذا متوقعًا لليابان عام 1945، لا سيما وأن مشاركتها في الحرب الأخيرة التي خسرت فيها. كانت تتويجًا لمحاولاتها المتهورة لحل مشاكلها الداخلية باللجوء إلى عدوان خارجي متزايد الطموح. لم تزل هزيمتها التوترات الداخلية في المجتمع الياباني؛ لكنها على الأقل مهدت الطريق للحظة، وأتاحت فرصة إعادة بناء اليابان الجديدة. فكيف كافحت اليابان لشق طريقها نحو التقدم؟ وما هي استراتيجيات التغلب على هذه الانتكاسة؟
انتكاسة الحرب العالمية الثانية
لعل سلطات الاحتلال، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، كانت تدرك الصلة الوثيقة بين المغامرات العسكرية اليابانية والتوترات الاجتماعية والاقتصادية الكامنة التي استمرت في التصاعد، حيث كانت تقوم بوضوح على فرضية ضرورة إصلاح بنية مجتمعنا وأنماطه حتى لا تصبح اليابان مرة أخرى تهديدًا للمجتمع الدولي.
غالبًا ما يكون وجود رجال الدولة في سدة الحكم السابق نتاجًا للظروف التاريخية القديمة المتراكمة؛ لكن سلطات الاحتلال أدركت “بحكمة” أن بقاء الوجوه القديمة في قمة المجتمع الياباني المتشابك سيخنق قوى الديمقراطية الناشئة التي كانت بحاجة إلى التشجيع. نفذت عمليات تطهير القادة في مختلف الأنشطة المتعلقة بصناعة الحرب بنجاح، ومهدت الطريق لجيل شاب لمتابعة الإصلاحات الديمقراطية التي أطلقتها سلطات الاحتلال. وكدولة مهزومة، عانت اليابان من الفقر والجوع، وتفاقمت حالتها حتى وصلت إلى انخفاض القوة العملة إلى أقل من واحد على مائة مما كانت عليه!

الإصلاحات اليابانية لدعم إعادة الإعمار
في مهمة إعادة الإعمار التي لا تزال قائمة، تعدّ مشكلة الاستقرار الاقتصادي محورية. فربما يكون انتعاش اليابان الهائل بعد الحرب شيء ظاهري أكثر من كونه حقيقي.
لكن عند التدقيق، يتبين أن ما يبدو نجاحًا باهرًا يرتكز على أرضية هشة للغاية. بل إن العديد من أهم الإصلاحات التشريعية التي أجريت خلال فترة الاحتلال قد ألغيت بالفعل لقمع هذا النجاح. فاليابان تحتاج إلى تغييرات جذرية في مجالات عديدة. ولا يمكن تحقيقها إلا من خلال عمليات ديمقراطية منظمة. ما يخشى منه هو أن يصبح المناخ المتدهور للوضع السياسي الحالي أرضًا خصبة للتطرف الذي أعاق سابقًا التقدم البرلماني البطيء لليابان في عشرينيات القرن الماضي. ولكن شعب اليابان لا يطمح إلا إلى حياة سلمية، حتى لو كان فقيرًا، في مناخ اجتماعي وسياسي يضمن لهم السيطرة.
وقد تحققت الكثير من الإنجازات الحقيقية في السنوات الأولى من الإصلاح التي أعقبت الحرب، وخاصة فيما يتعلق بالتثقيف السياسي للجماهير. لقد أطلع ملايين اليابانيين الذين لم يشاركوا قط في حكومتهم على رؤية واضحة لدورهم في ظل نظام ديمقراطي. تقع الآن (منذ تلك المرحلة) على عاتق قادتهم مهمة منحهم القيادة التي تضمن مشاركتهم الكاملة في العمل والتضحيات اللازمة لتحقيق الاستدامة الاقتصادية. يجب حل المشاكل الداخلية قبل أن تتمكن بلادنا من المساهمة الكاملة في تحقيق المثل الأعلى المشترك المتمثل في السلام الدائم وتقدم البشرية. وحتى ذلك الحين، لا يمكننا القول إن اليابان الجديدة قد وُلدت بالفعل.
الدبلوماسية اليابانية بعد الحرب
أ. النهوض من بين الأنقاض (1945-1955)
في هذا التوقيت كان الاقتصاد الياباني في حالة يرثى لها. فقد أظهرت أرقام عام 1946 انخفاض الإنتاج الصناعي إلى 30% والإنتاج الزراعي إلى حوالي 60% من مستويات ما قبل الحرب (1924-1926). كان هذا واضحًا أنه غير كافٍ لإعالة حوالي سبعة ملايين مواطن ياباني عادوا من الخارج، وبدأ مستقبل الاقتصاد الياباني قاتمًا.
ورغم أن الاقتصاد الخاضع لسيطرة مركزية كان ضرورياً للتعامل مع هذا العجز الشديد، فقد تم تحديد سعر صرف الين عند 360 يناً للدولار في ديسمبر/كانون الأول 1949، وتم فرض برنامج تقشف للحفاظ على قيمة الين، وكانت النتيجة استقرار العملة والأسعار، وأصبح من الممكن التحول إلى اقتصاد السوق الحرة.
وبسبب افتقار اليابان إلى الموارد الطبيعية الخاصة بها، لم يكن أمامها خيار سوى استيراد الموارد الطبيعية التي تحتاجها لانتعاشها وتنميتها الاقتصادية، مما استلزم بدوره تصدير السلع المصنعة من أجل الحصول على العملة الصعبة اللازمة لدفع ثمن هذه الواردات.
بجانب ذلك، فقد وفّرت الحرب الكورية، التي اندلعت في يونيو 1950، وفرةً من طلبات الشراء والإصلاح، مما أشعل شرارة أول طفرة في اليابان بعد الحرب.

ب. النمو السريع والتحول إلى اقتصاد السوق الحرة (1956-1965)
بعد انضمام اليابان إلى الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة General Agreement on Tariffs and Trade (جات)، استندت المملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا وأستراليا وعدد من الدول الأخرى إلى أحكام رفض الدخول في علاقات مع اليابان، واستمرت في تطبيق إجراءات تمييزية ضدها. تكاثفت الجهود الرامية إلى إلغاء هذه الأحكام، وبدأ التفاوض على معاهدات أو اتفاقيات تجارية بشأن التجارة والملاحة بعد عام 1955.
شهدت تلك السنوات أيضًا ما يسمى بالمعجزة الاقتصادية اليابانية. فبفضل استثمارات ضخمة في المصانع والمعدات لمواكبة الابتكار التكنولوجي، ومع بروز طبقة استهلاكية قوية، شهدت اليابان توسعات اقتصادية عرفت بـ”طفرة جيمو” و”طفرة إيواتو”.
ج. إعادة الإعمار خلال سنوات الازدهار والاضطرابات الاقتصادية الدولية (1965-1975)
شهد الاقتصاد الياباني ازدهارًا قياسيًا لمدة 57 شهرًا حتى صيف عام 1970. وخلال هذه الفترة المزدهرة، ازداد الاقتصاد الياباني قوةً، ليصبح ثاني أكبر اقتصاد سوق حر في العالم عام 1968. وفي العام نفسه، حقق ميزان المدفوعات الدولي لليابان في الحساب الجاري أرباحًا لأول مرة منذ الحرب. وخلال الفترة نفسها، شهدت الولايات المتحدة زيادات حادة في عجزها التجاري عامي 1971 و 1972، واندلعت خلافات اقتصادية حادة بين البلدين.
في أكتوبر/تشرين الأول 1973، اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، وأعلنت دول الخليج الست الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) عن زيادات حادة في أسعار النفط المعلنة. وبدأت بذلك أول أزمة نفطية. وأوقعت هذه الزيادة اقتصادات الدول الصناعية في مأزق ثلاثي: التضخم الجامح، وتدهور الحسابات الجارية في ميزان المدفوعات الدولي، والركود.
وفي السنة المالية 1974، سجلت اليابان أول نمو سلبي لها منذ نهاية الحرب، واستمر هذا الركود، الذي بلغ حدًا غير مسبوق، حتى السنة المالية 1975.
كانت هذه أزمةً كبرى لليابان، الدولة التي نمت وازدهرت كدولةٍ مصنِّعةٍ ومتاجرةٍ، معتمدةً على وفرةِ إمداداتِ النفطِ وغيره من المواردِ بأسعارٍ زهيدة، وأعادت إلى الأذهانِ الحاجةَ إلى تعزيزِ العلاقاتِ مع الدولِ المورِّدةِ للموارد. وهكذا، استلزمَتْ تغييرًا جذريًا في السياسةِ اليابانية.

د. المناخ الاقتصادي الدولي المتغير (1975-1984)
بعد أن حققت اليابان قدراً ضئيلاً من النمو الحقيقي في عام 1975، كانت من بين أوائل البلدان التي تعافت إلى حد ما من ويلات أزمة النفط الأولى، وسرعان ما تبعها الاقتصاد العالمي ككل في عام 1976 وما بعده. ومع ذلك، أدت الثورة الإيرانية عام 1979 إلى انخفاض حاد في صادرات إيران النفطية، وأشعلت شرارة أزمة نفطية ثانية.
ومع ذلك، وبالاستفادة من الدروس السابقة من أزمة النفط الأولى، أثبت الاقتصاد الياباني قدرته العالية على التكيف! فإلى جانب مواصلة الجهود التي بدأت خلال أزمة النفط الأولى للحفاظ على الطاقة، وتطوير مصادر طاقة بديلة وتنويع مصادر الإمداد وتحقيق استقرار إمدادات الطاقة في اليابان. أعادت اليابان هيكلة اقتصادها للتكيف مع حقبة ارتفاع تكاليف الطاقة. ونتيجة لذلك، تمكنت اليابان من تحقيق معدل نمو أعلى نسبيًا من الدول الصناعية الأخرى، وعاد ميزان مدفوعاتها الدولي إلى الربحية في عام1981.
وقد أدى هذا المزيج من انخفاض الواردات نتيجة لحرص اليابان على ترشيد استهلاك الطاقة، وزيادة الصادرات نتيجة لحرصها على توفير السيارات والمنتجات الإلكترونية والآلات الصناعية وغيرها من المنتجات المحددة التي يريدها العالم، إلى اختلال التوازن التجاري الثنائي مع الولايات المتحدة وأوروبا، وتجدد الاحتكاك الاقتصادي مع هذه البلدان.
إعادة الإعمار ومرحلة التعافي من الحرب
كافحت اليابان لإيجاد وسيلة لقمع ذكريات الحرب والتعبير عنها. بالإضافة إلى التوترات بين الرغبة في التذكر والرغبة في النسيان خلال السنوات الـ25 الأولى بعد هزيمة اليابان. باستخدام مجموعة متنوعة من مصادر الثقافة الشعبية، مثل الإذاعة والتلفزيون والسينما والأدب ووسائل الإعلام والرياضة والأنمي. حيث ساهمت العديد من الشخصيات اليابانية البارزة والشخصيات الشعبية ساهمت في تشكيل الصورة الوطنية لليابان خلال هذه الفترة من الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي.
يطلق على ذكرى الحرب هذه اسم “السردية التأسيسية”، بإبعاد ذكريات خسائر الحرب، والصدمات الوطنية، والأعمال العدائية السابقة مع الولايات المتحدة، وفّرت “السردية التأسيسية” وسيلةً للقيادة اليابانية بعد الحرب “لتبرير التوتر الناتج عن قبولها الهزيمة” مع “إخفاء هزيمة اليابان تحت ستار الضرورة الاستراتيجية والاهتمام بالإنسانية جمعاء”. وعلى ذلك يتم اعتبار أي ذكرى للحرب العالمية الثانية شيء يتعارض مع سياسة الحرب الباردة. ولهذا سرعان ما يتم قمعها في كل من اليابان والولايات المتحدة.
ومع ذلك، سرعان ما أصبحت اليابان والولايات المتحدة حليفتين وثيقتين بفضل مصالحهما المشتركة بعد الحرب. ولـ”توضيح تجارب القنبلة الذرية وضمان تحوّل علاقتهما”، كتمت اليابان والولايات المتحدة العداوة العميقة التي ميّزت علاقاتهما السياسية حتى تلك اللحظة. وفي هذه العملية، تحوّلت الخسارة، من خلال التمثيلات السردية، إلى تضحيات ضرورية لتحسين مستقبل اليابان. وهو شرط أساسي للسلام والازدهار بعد الحرب تحت الوصاية الأمريكية.
يرفض البعض “السردية التأسيسية” وفكرة وجود انقطاع مفاجئ وفوري في التسلسل الزمني التاريخي الذي تحولت فيه اليابان من إمبراطورية قومية إلى دولة قومية ديمقراطية. ويجادل الكثير ضد هذا البناء التاريخي، مؤكدًا أن العديد من اليابانيين العاديين في الواقع قد تصارعوا مع ذكريات الحرب العالمية الثانية المعقدة لفترة أطول بكثير مما تصوره الروايات الرسمية. وبدلاً من ذلك، عملت الأمة اليابانية بجد لإعادة بناء بنيتها الاجتماعية، واستعادة عزتها الوطنية، والتغلب على التبعية السياسية لعدوها السابق – الولايات المتحدة. وقد نجت اليابان من خسارة الحرب وما تلاها من دمار جزئيًا بفضل ثقافة شعبية أتاحت التعبير عن ذكريات الهزيمة والدمار بشكل أكثر طوعية.

خرافة شائعة عن اليابان وعبارة مثيرة للجدل
في النهاية، نختم بعبارة جدلية -ناتجة عن مغالطة تاريخية- طرحها بعض المتابعين فيما يتعلق بموضوع التنمية والمعجزة الاقتصادية اليابانية مع إعادة الإعمار، وقد اتفق الكثير منهم على هذه الصيغة: “لولا الولايات المتحدة، لما استطاعت اليابان تحقيق أي معجزة اقتصادية، فكل ما حصل لها من تطور بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، يعود فضله إلى الولايات المتحدة.. بدونها .. اليابان لا تساوي شيئا”
هذه العبارة خاطئة جملةً وتفصيلاً وفيها قراءة سطحية للتاريخ وسوء فهم للأحداث والواقع. كما تبدو مبالغ فيها ومختزلة للغاية. ولا تعكس الواقع التاريخي والاقتصادي بشكل دقيق. وفيها تهميش واضح وفاضح للدور الياباني بشكل غير عادل. صحيح أن الولايات المتحدة لعبت دورا مهما في إعادة بناء اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة من خلال خطة مارشال ودعم إصلاحات اقتصادية وسياسية مثل دستور دوغلاس ماكارثر، إلا أن نجاح اليابان الاقتصادي لا يمكن اختزاله إلى دور الولايات المتحدة وحدها.
فالعوامل الداخلية لليابان، مثل ثقافة العمل الجماعي، والانضباط، والابتكار التكنولوجي، والسياسات الصناعية الذكية (مثل دعم وزارة التجارة والصناعة للقطاعات الاستراتيجية). إضافةً للتركيز الكبير على الجودة بالتطوير المستمر عن طريق عدة مفاهيم يابانية مثل مفهوم “كايزن”، كانت حاسمة في تحقيق المعجزة الاقتصادية. كما أن اليابان استفادت من ظروف عالمية، مثل الحرب الباردة التي جعلتها حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة. وحرب كوريا التي عززت اقتصادها من خلال الطلب على المنتجات اليابانية.
خرافة مصحوبة بتجاهل للحقائق وقراءة متحيزة ضد اليابان
لا يمكن أبدا تجاهل التأثير العالمي على الأسواق للعديد من الشركات اليابانية الكبرى مثل شركات مثل تويوتا، سوني، وباناسونيك وغيرها! فقد طورت الكثير من المنتجات التي أحدثت ثورة في الأسواق العالمية.
القول إن “اليابان لا تساوي شيئًا” بدون الولايات المتحدة يقلل من شأن شعب اليابان وقدراته. ويتجاهل أن اليابان كانت بالفعل قوة صناعية وعسكرية حتى قبل الحرب. الدعم الأمريكي كان عاملاً مساعدًا مهمًا، لكنه ليس السبب الوحيد. العبارة تنزع السياق التاريخي وتعتمد على تبسيط مفرط.
ولو كان الدعم الأمريكي كافياً وحده لتحقيق “معجزة”، لنجحت دول أخرى حصلت على مساعدات مماثلة (مثل بعض دول أمريكا اللاتينية) بنفس الدرجة، وهو ما لم يحدث. اليابان واجهت تحديات ضخمة (دمار الحرب، نقص الموارد) واستطاعت تحويلها إلى فرص عبر الذكاء الاستراتيجي والعمل الجاد.
إعداد و تقديم جنة الجندي لمزيد من المحتوى المقدم من الكاتبة، بالإمكان متابعة صفحتها الخاصة عبر فيسبوك.
I wish I could find people in Japan or at Japanese embassies who care about the anniversary of the Hiroshima and Nagasaki bombings. But unfortunately, I don’t think there is any interest in this anniversary. I have drawings about this anniversary that I wished would be published in Japan, museums, and schools. But I haven’t found anyone interested.