ما سبب تراجع عدد السكان في اليابان؟

ما سبب تراجع عدد السكان في اليابان؟
ما سبب تراجع عدد السكان في اليابان؟

نظرة قاتمة تلوح في مستقبل اليابان نستعرض تبعاتها وتأثيراتها من نواحٍ عدة. بعيداً عن المبالغات والصور البراقة التي ترسمها بعض المواقع و وسائل التواصل الاجتماعي عن اليابان والتي لا تمت إلى الواقع بصلة. فمعضلة انخفاض التعداد السكاني في اليابان ليست وليدة اللحظة، وليست محصورة بأبعادها الاجتماعية وحسب، بل إنها تشمل أبعاداً كثيرة ولعل أبرزها الأبعاد الاقتصادية والتجارية والسياسية.




في الواقع، لا يوجد سبب واحد لانخفاض عدد السكان في اليابان. إنما توجد مجموعة من الأسباب والمشاكل المتفاقمة يوماً بعد يوم وهي من جملة التحديات التي تواجهها الحكومة في اليابان. وهذا ما يفسر مدى تعقيد معضلة تراجع عدد السكان على نحو غير مسبوق. ولإدراك حجم المعضلة التي تواجهها اليابان هذا اليوم، نستعرض أسباب تراجع عدد السكان في اليابان مع بعض الأرقام والإحصاءات لمعرفة حجم تأثير كل سبب على حدة ومدى خطورة هذه المشاكل على المجتمع ومستقبله في اليابان:

1. تراجع معدل المواليد

يعد تراجع معدل المواليد من أبرز الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى انخفاض تعداد السكان في اليابان، فعند المقارنة بين المعدل الحالي مع المعدل إبان طفرة الإنجاب الأولى التي شهدتها البلاد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نجد بأن معدل الإنجاب قد بلغ في تلك الفترة نحو 2.7 مليون مولود سنوياً. لكن هذا المعدل قد انخفض حتى وصل في يومنا هذا إلى أقل من مليون مولود سنوياً. حيث بلغ عدد المواليد تحديداً 946 ألف و 60 طفل في عام 2017 وفقاً لما ذكرته وزارة الصحة والعمل والرفاه اليابانية. وقد بلغ عدد المواليد بحلول نهاية عام 2018 حوالي 921000 مولود وفقاً للوزارة. وعلى الرغم من مساعي الحكومة اليابانية إلى مواجهة هذه المشكلة، إلا أنها لم تحرز تقدماً فيها ولازال معدل المواليد في تراجع مستمر. ويعود السبب وراء تراجع معدل المواليد في اليابان وفقاً لخبراء في التاريخ الديموغرافي؛ إلى الصعوبات التي تواجهها النساء في اليابان في تحقيق التوازن بين العمل والأمومة، بالإضافة إلى ارتفاع عدد العاملين بدوام مؤقت، وانتشار ظاهرة العزوف عن الزواج، والزواج بسن متأخرة.

2. ارتفاع معدل الوفيات

انخفاض معدل المواليد بالتزامن مع ارتفاع معدل الوفيات في اليابان
انخفاض معدل المواليد بالتزامن مع ارتفاع معدل الوفيات في اليابان

بالعودة إلى عام 2017، ولإحصاءات وزارة الصحة والعمل والرفاه اليابانية، فإن معدل المواليد في عام 2017 قد وصل لأدنى مستوى له كما تم ذكره آنفاً. حيث بلغ عدد المواليد 946,060 طفل في عام 2017، بينما بلغ عدد الوفيات 1,340,433 حالة وفاة في ذات العام. بمعنى آخر، انخفض التعداد السكاني في اليابان بواقع 400 ألف نسمة في عام واحد فقط. وبالنظر إلى المخطط البياني أعلاه، يتضح مدى حجم المعضلة الديموغرافية في اليابان. فعدد السكان في تراجع كبير للغاية، وإذا استمر بنفس هذه الوتيرة قد يصل عدد السكان إلى ما دون عتبة المئة مليون في عام 2049. علماً أن عدد السكان في اليابان وفقاً لآخر الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة في شهر أبريل من عام 2019 قد بلغ 126,915,985 نسمة. ولا عجب في ارتفاع معدل الوفيات في اليابان لاسيما عند معرفة السبب الأول وهو ارتفاع معدل الشيخوخة في اليابان. لأن أكثر من خُمس المجتمع في اليابان قد دخل في مرحلة الشيخوخة، أي أن شخص واحد من كل 5 أشخاص في اليابان يبلغ عمره 70 سنة أو أكثر وفقاً لإحصاءات الحكومة اليابانية ولما ورد لدى وكالة كيودو للأنباء. ومن المظاهر التي لوحظت بشكل كبير مؤخراً، أصبحت الحفاضات المخصصة للكبار تباع بنسبة أكبر بالمقارنة مع حفاضات الأطفال في الأسواق اليابانية.

| Image: robotopia أصبحت الحفاضات المخصصة للكبار تباع بنسبة أكبر بالمقارنة مع حفاضات الأطفال في الأسواق اليابانية
أصبحت الحفاضات المخصصة للكبار تباع بنسبة أكبر بالمقارنة مع حفاضات الأطفال في الأسواق اليابانية | Image: robotopia

وبالحديث عن الأرقام، فإن الشيخوخة تزيد من التكاليف والمصاريف التي يتوجب على الحكومة اليابانية تحديد ميزانيات مخصصة لها لاسيما في مجال الرعاية الصحية (يمكن الاطلاع على المزيد من التفاصيل حول مجال الرعاية الصحية للمسنين بالضغط هنا). ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد، بل إنها تشمل معدلات الإنتاج التي تواجه خطراً كبيراً في المستقبل. مع قلة الأيدي العاملة الشابة وبهذه الوتيرة، سيتعرض الاقتصاد الياباني للانكماش. خاصةً في عام 2036، فمن المتوقع أن يكون شخص واحد من بين كل ثلاثة أشخاص في المجتمع الياباني، يبلغ عمره سبعين سنة أو أكثر. وذلك في حال استمر ارتفاع معدل الشيخوخة بنفس الوتيرة الحالية.

توجد العديد من الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفاة في اليابان أيضاً، من أبرزها ظاهرة الانتحار في اليابان. وفقاً للإحصاءات الرسمية لموقع World Population Review لعام 2019، فقد بلغ معدل الانتحار في اليابان لهذا العام 18.5 حالة انتحار لكل 100 ألف نسمة. وعلى الرغم من أن هذا المعدل منخفض بالمقارنة مع معدل الانتحار لدى روسيا (31 حالة انتحار لكل 100 ألف نسمة) و كوريا الجنوبية (26.9 حالة انتحار لكل 100 ألف نسمة)؛ إلا أن معدل الانتحار يعد من أعلى المعدلات على مستوى العالم. وهناك الكثير من المشاكل الاجتماعية التي تظهر على السطح عند الحديث عن الانتحار كنهاية لهذه العوامل ومنها ظاهرة الانعزال الاجتماعي والتنمّر والضغوطات النفسية والاجتماعية وتلك الناجمة عن الإفراط في العمل، وهذه العوامل مرتبطة إلى حد كبير بالسبب التالي.

3. ضغوطات العمل والحياة في اليابان

يعد الاقتصاد الياباني حالياً ثالث أقوى اقتصاد في العالم ونسبة البطالة أقل من 3% في اليابان، لكن هذه الحقيقة تخفي بين طياتها الكثير من المخاوف التي تنذر بتراجع كبير لهذا الاقتصاد بالمستقبل. فعدد الوظائف المؤقتة وغير المستقرة في ازدياد مستمر، وذلك على حساب الوظائف الدائمة والمستقرة. فاليابان لازالت تعيش تبعات الركود الاقتصادي العالمي الذي حدث في أواخر عام 2007. حيث انتشرت الوظائف المؤقتة وغير المستقرة بكثرة في اليابان منذ ذلك الوقت. وأصبحت نسبة الوظائف المؤقتة تشكل نحو 40% من سوق العمل في اليابان وفقاً للأستاذ الجامعي “جيف كينغستون” المحاضر في جامعة Temple بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ومؤلف للعديد من الكتب عن اليابان. ويقصد هنا بالوظائف المؤقتة والمتوفرة لدى الكثير من الشركات اليابانية، هي الوظائف التي لا يمكن للموظف العمل بها بشكل دائم طيلة فترة حياته المهنية. ويمكن العمل مقابل أجر مادي ضئيل وبدون الحصول على أية مكافآت عند العمل لساعات أطول، وعند رفض العمل لساعات أطول سيتم وبكل بساطة الطرد من هذه الوظيفة. و وفقاً للبروفيسور “كينغستون” فإن هؤلاء العاملين بالوظائف المؤقتة، يتم احتسابهم ضمن الإحصاءات الحكومية على أنهم عاملين وليسوا عاطلين عن العمل. وفي الواقع، 20% فقط من هؤلاء الموظفين يتمكنون من الحصول على وظيفة دائمة مستقرة فيما بعد. وقد انخفض عدد الموظفين الدائمين بين عامي 1995 و 2008 بنحو 3.8 ملايين موظف، بينما ارتفع عدد الموظفين المؤقتين بنحو 7.6 ملايين.

الوظيفة المؤقتة هي وظيفة غير مستقرة أساساً، وهي تجمع ما بين العمل الحر و كلمة عامل، وقد انتشرت هذه الوظائف بشكل كبير منذ تسعينات القرن الماضي، حينما قامت الحكومة اليابانية بمراجعة قوانين العمل لتمكين استخدام أوسع وأشمل بهذه القوانين سواءً للعاملين بشكل مؤقت أو بالنسبة للموظفين الدائمين الذين يعملون بوظائف مستقرة في الشركات. ومع امتداد ظاهرة العولمة، زادت الضغوط على الشركات بشكل مكثف من أجل تقليل تكاليف الإنتاج قدر الإمكان من جهة، ولزيادة قدراتها التنافسية مع الشركات في الخارج من جهة أخرى، اضطرت حينها الشركات اليابانية إلى الاعتماد على الوظائف المؤقتة وغير المستقرة خصوصاً إبان الركود الاقتصادي الذي تم ذكره سابقاً. هذه التغيرات الاقتصادية التي ألمّت بسوق العمل في اليابان، ألقت بظلالها على المجتمع الياباني ليعيش ضغوطات كبيرة للغاية في سعيه الدائم للبحث عن حلمه البعيد بالاستقرار الوظيفي والخوف من خسارة وظيفة غير مستقرة! فالشباب في اليابان عموماً يقبضون راتباً يبلغ وسطياً حوالي 1800 دولار أمريكي، ينفق الكثير منه على آجار شقته السكنية، وتسديد قروضه المستحقة عليه للجامعة، بالإضافة إلى دفع ما تبقى لبرنامج الضمان الاجتماعي الياباني. وبالتالي، بالكاد أن يبقى معه شيء ليعيش به طيلة هذا الشهر. لذلك من الطبيعي أن يجد الشاب في هذه الحالة صعوبةً بالغةً بإيجاد الوقت المناسب فقط للتفكير بأمور الارتباط والزواج وتكوين الأسرة. وهذا الأمر يشمل الجنسين، حيث يتفق البروفيسور “ماتشيكو أوساوا” بالجامعة النسائية في اليابان، مع البروفيسور “كنيغستون” بهذه النقطة. فالنظرة العامة هنا لدى المجتمع بأن الرجل الذي لا يزاول مهنته ضمن وظيفة دائمة ومستقرة ، ليس مؤهلاً للزواج. وحتى لو كان كلاً من الشريكين لديهما وظائف مؤقتة، فإن أهل كل من هذين الشريكين سيعارضون عادةً هذا الزواج. لذلك لابد أن يحصل على المرء على وظيفة دائمة كضمان من أجل الزواج. وما يزيد الطين بلة بأن الكثير من الموظفين الدائمين يعانون من الضغوطات أيضاً! فعند مقارنة حجم الإنتاج الهائل الذي يمكن أن يقدمه الموظف المؤقت نتيجة خشيته من فقدان وظيفته، يميل المدراء إلى الضغط أكثر على الموظفين الدائمين لتقديم إنتاج مماثل لما يقدمه الموظف المؤقت! وهذا ما يزيد من صعوبة الحياة الشخصية والمهنية للموظفين الدائمين بشكل عام ويشكل عائقاً وتحدياً كبيراً على المدى البعيد لاسيما في موضوع الارتقاء ضمن السلّم الوظيفي.

تعاني المرأة في اليابان أيضاً من هذه المشكلة الاجتماعية، فخلال سعيها للبحث عن وظيفة دائمة، تجد نفسها في ورطة الوظيفة المؤقتة وغير المستقرة، وغير محدودة بأوقات عمل محددة! فعلى الرغم من أن ساعات العمل محددة ضمن الاتفاق أو العقد إلا إن ما كُتِب يبقى حبراً على ورق. فالكثير من العاملين بهذه الوظائف المؤقتة يشكون من إجبارهم على العمل لفترة طويلة حتى بعد موعد انتهاء الدوام الرسمي. ويقوم الكثير من المدارء بإجبارهم على التوقيع أو تسجيل خروجهم عند انتهاء موعد العمل الرسمي ويجبروهم على العودة إلى العمل مباشرةً! وعند الرفض سيخسرون العمل مباشرةً. ومن الوقاحة أصلاً الخروج قبل أن يخرج الموظف قبل مدير العمل وفقاً لما هو شائع لدى العقلية اليابانية. وهناك من يُجبر على العمل حتى خارج مكتبه وفي أوقات العطل الرسمية. فالكثير ممن يعملون بمثل هذه الوظائف لا تُذكر أسماؤهم ولا يُعترف بهم، ويبدو كل شيء رائعاً و براقاً من الوهلة الأولى، مكتب نظيف فاخر، بدلة عمل رسمية، ابتسامة تخفي الكثير من المرارة والخشية من فقدان هذا العمل، إلا أنّ لغة الجسد، وما يعبر الموظف عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، يتضمن الكثير من الميول الانتحارية، والانعزال عن الآخرين، والعزوف عن الزواج والارتباط. فمع كل هذه الضغوطات التي تلقي بأثقالها على كاهل الشاب والفتاة في اليابان، كيف سيعثر كل منهما على الوقت المناسب من أجل تكوين أسرة؟!

دورات تعلم اللغة اليابانية في قلب العاصمة طوكيو، للمزيد من المعلومات لا تترددوا بمراسلتنا عبر صفحتنا على فيسبوك
دورات تعلم اللغة اليابانية في قلب العاصمة طوكيو، للمزيد من المعلومات لا تترددوا بمراسلتنا عبر صفحتنا على فيسبوك

انضم الآن مجاناً لتصبح عضواً متميزاً في مجلة اليابان للحصول على آخر المستجدات والأخبار من الموقع مع العديد من العروض والمفاجآت! (اضغط هنا)

1 1 vote
Article Rating

اكتب تعليقًا

16 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Nour el houda
Nour el houda
4 سنوات

أمر مؤسف رغم التطور الا ان عنصر الشيخوخة لدكم بنسبة كبيرة

Mounire
4 سنوات

رغم التطور لكن شيخوخة أكثر في اليابان

Wassim LatinOs
Wassim LatinOs
4 سنوات

في الجزائر لدينا اكبر طاقة بشرية لكن للاسف اصبحنا كالشيخوخة ليس بسبب عوامل كثيرة بل عامل فقط و هما الحكام
للاسف

محمد بودوخة
محمد بودوخة
4 سنوات

من بين العوامل في التراجع النمو الديمغرافي في اليابان
الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة و القاهرة.

حسن احمد
حسن احمد
4 سنوات

ضغوط العمل على العمالة المؤقتة و كذلك على العمالة الدائمة بسبب بعضهم
هذه حلقة مفرغة لا يستفيد منها سوى أصحاب المال فقط للاسف

Abdulrahim Metwally
Abdulrahim Metwally
3 سنوات

good

عماد عربيات
عماد عربيات
3 سنوات

أعتقد علاقات العمل واستبعاد الموظفين يجب اعادة النظر بها في اسرع وقت.

Amir Fayez
Amir Fayez
3 سنوات

في الوطن العربي نحب كثيراً اليابان فهناك اوجه تقاربي بيننا كعرب والشعب الياباني كما ان منتجات اليابان لها اولوية خاصة المصنوعة في اليابان، اتمنى ان يصبح هناك اتحاد صناعي تجاري بما يحقق تبادل المنافع والخبارات،ودمتم بخير

ا. رستم
ا. رستم
2 سنوات

في بلدان العالم الثالث هناك مخزون بشري ولكن لانعرف كيف نحافظ عليه.

ヤコブ 先輩
5 شهور

مشكلة تراجع عدد السكان معقدة وليست بسيطة كما كنا نعتقد وورائها اسباب كثيرة.

ヤコブ 先輩
5 شهور

شييخوخة المجتمع الياباني في ارتفاع متزايد مقارنة بدول اخرى والحكومة تحاول ايجاد حل باستمرار

Enji
Enji
5 شهور

كل جهد الموظفين هذا لم يذهب سداً… إذ جعل من اقتصاد اليابان ثالث أقوى اقتصاد في العالم!

Enji
Enji
5 شهور

ولكن أعتقد أنه يمكنهم التفكير بالعمل من منحى آخر… بذكاء!

نصرالدين الليبي
نصرالدين الليبي
4 شهور

معلومات خطيرة للغاية و تنذر بحدوث كارثة

نصرالدين الليبي
نصرالدين الليبي
4 شهور

الحفاظات المخصصة للمسنين تباع اكثر من الحفاظات المخصصة للاطفال هذا خبر مخيف و يدق ناقوس الخطر

Yashiro
Yashiro
4 شهور

رغم انخفاض عدد السكان واليد العاملة ولكن اليابان دائما في تطور وتقدم مستمر رغم هذه المشكلة الصعبة

16
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x