في المشهد الاقتصادي العالمي، لا تشتهر اليابان بالتقدم التكنولوجي والتراث الثقافي الغني فحسب، بل أيضًا بثقافة العمل سيئة السمعة. إن الظاهرة المعروفة باسم كاروشي 過労死، والتي تترجم إلى “الموت بسبب الإرهاق في العمل”، هي تذكير صارخ بالضغوط الشديدة التي يواجهها الموظفون اليابانيون. و على الرغم من المجهودات التي تبذلها الحكومة وحملات التوعية العامة، تشير التقارير الأخيرة إلى أن اليابان لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه لتحسين التوازن بين العمل والحياة لمواطنيها. نتناول في هذا المقال الوضع الحالي للإرهاق في اليابان، وندرس العوامل التي تساهم في الكاروشي ثم نستكشف الحلول المحتملة لهذه القضية الشائكة.
فهم مصطلح كاروشي
يشمل كاروشي الوفيات الناجمة عن النوبات القلبية والسكتات الدماغية وحالات الانتحار المرتبطة بالإجهاد المفرط المرتبط بالعمل. ويسلط أحدث تقرير حكومي عن الكاروشي، بموجب قانون عام 2014 بشأن تدابير الوقاية، الضوء على خطورة المشكلة. حيث يستطلع التقرير أنماط النوم لكل من العاملين لحسابهم الخاص والعاملين في الشركات، ويكشف عن الحرمان الكبير من النوم وتأثيره على الصحة.
لقد أظهرت الأبحاث أنه عندما تكون هناك فجوة تزيد عن ساعتين بين مقدار النوم الذي يريده الإنسان والكمية التي يحصل عليها، فإن ذلك يؤدي إلى مجموعة من المشكلات الصحية، بما في ذلك النعاس أثناء النهار، وصعوبة التركيز، واضطرابات الجهاز الهضمي، ومشاكل الصحة العقلية مثل الاكتئاب والقلق. ويشير التقرير إلى أنه على الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة لرفع مستوى الوعي حول العمل الإضافي، فإن صحة العديد من العمال تظل مصدر قلق وطني.
مدى الحرمان من النوم بسبب العمل
عامة يشعر أكثر من 90% من العاملين لحسابهم الخاص والعاملين في الشركات أنهم بحاجة إلى ما لا يقل عن ست ساعات من النوم في الليلة، ولكن فقط حوالي النصف مما يقرب من 10000 شخص شملهم الاستطلاع أفادوا بأنهم يحصلون على هذا القدر من النوم. وتزداد نسبة الأشخاص الذين يشكون من الحرمان من النوم مع زيادة عدد ساعات العمل. فعلى سبيل المثال، أفاد 78% ممن يعملون 60 ساعة أو أكثر أسبوعيًا أنهم لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم، مقارنة بـ 56% ممن يعملون أقل من 20 ساعة، و64.5% ممن يعملون بين 20 و40 ساعة، و71.1% ممن يعملون بين 40 و60 ساعة.
بالإضافة لذلك، يسلط الاستطلاع الضوء أيضًا على أنه على الرغم من أن مقدار النوم المثالي يختلف من شخص لآخر، إلا أن الكثير من الأشخاص يشعرون بوجود فجوة بين ما هو مثالي وساعات نومهم الفعلية. حيث قال حوالي 45% من المشاركين إنهم يحتاجون إلى ما بين سبع إلى ثماني ساعات من النوم، و28.9% يحتاجون إلى ما بين ست إلى سبع ساعات، و17.1% يحتاجون إلى أكثر من ثماني ساعات. ومع ذلك، في الواقع، أفاد 35.5% أنهم ينامون ما بين خمس إلى ست ساعات في الليلة، و35.2% ينامون ما بين ست إلى سبع ساعات، و15.7% ينامون ما بين سبع إلى ثماني ساعات، و3.5% يحصلون على أكثر من ذلك. والمثير للقلق أن 10% ينامون أقل من خمس ساعات.
الآثار الصحية للعمل الإضافي
و قد وجد الاستطلاع نفسه أن الحرمان من النوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالميول الاكتئابية والقلق ومشاعر التعاسة. حيث كلما اتسعت الفجوة بين مقدار النوم المثالي والفعلي، أصبحت هذه المشكلات أكثر وضوحًا. لهذا دعا مسؤولو وزارة الصحة المزيد من أصحاب العمل إلى ضمان حصول العمال على قسط كاف من النوم، مثل تحديد الحد الأدنى لساعات الراحة والانقطاع عن العمل بين الورديات. فبموجب القانون الحالي، يُطلب من الشركات تقديم ما يسمى بنظام فترات العمل، لكن المطلب غير ملزم قانونيا، ولا تحدد الحكومة عددًا من الساعات للفترة الفاصلة. في المقابل، تفرض بعض الدول الأوروبية على العمال الحصول على 11 ساعة راحة على الأقل بين الورديات.
نقص الوعي والتنفيذ
كذلك كشفت دراسة استقصائية شملت حوالي 6300 شركة في عام 2022 أن 17.1% من المشاركين لم يكونوا على علم بقوانين الفواصل الزمنية، مرتفعة بذلك ب15.4% عن العام الماضي، و على الرغم من هدف الحكومة المتمثل في خفض نسبة أرباب الأعمال هؤلاء إلى 5% بحلول عام 2025. فنسبة الشركات التي انتهجت هذا النظام وصلت إلى ما يقرب 5.8% فقط، أي أقل بكثير من الهدف المتمثل في 15% بحلول عام 2025.
يتم إعداد التقرير السنوي عن الكاروشي بموجب قانون تعزيز تدابير منع الوفاة والإصابات الناجمة عن العمل الإضافي، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2014. وغالبًا ما يكون سبب الكاروشي هو النوبات القلبية والسكتات الدماغية المرتبطة بالإرهاق في العمل والانتحار بسبب الإجهاد المرتبط بالعمل.
السياق الثقافي للإفراط في العمل
إن مسألة ساعات العمل الطويلة متجذرة بعمق في ثقافة الشركات اليابانية. فقد أظهر استقصاء القوى العاملة الذي أجراه مكتب الإحصاء التابع لوزارة الداخلية والاتصالات عام 2015 أن حوالي 20% من العاملين الذكور في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر يعملون من 49 إلى 59 ساعة أسبوعيًا. وأن 15% إلى 16% يعملون ل 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع. علما أن العمل ل 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع يعني العمل الإضافي لمدة أربع ساعات على الأقل كل يوم. و بالنسبة للعامل الذي يغادر المكتب بعد الساعة 9 مساءً، فإن العودة إلى المنزل بعد الساعة 10 مساءً أمر نموذجي. وهو أمر لا يفضي إلى نمط حياة صحي. علاوة على ذلك، تساهم ساعات العمل الطويلة في انخفاض معدلات المواليد بين العمال خلال فترات تربية أطفالهم. مما يجعل تنظيم ساعات العمل المناسبة قضية ملحة و جد هامة للمجتمع الياباني.
أسباب ساعات العمل الطويلة
:يمكن أن تعزى ثقافة عدد ساعات العمل الطويلة في اليابان إلى ثلاثة عوامل رئيسية
- نظام التوظيف القائم على العضوية:
تقوم الشركات اليابانية عادة بتعيين الموظفين مع توقع أن يصبحوا أعضاء أساسيين و وفيين للشركة. “العضو الجيد” هو الشخص الذي يساعد زملاءه ويقبل المهام من المشرفين عن طيب خاطر. و غالبًا ما يقوم المديرون بتخصيص مهام جديدة للمرؤوسين الأكثر موهبة، مما يؤدي إلى زيادة عبء العمل وساعات العمل الأطول. حيث أن الرغبة في أن تكون “عضوًا جيدًا” تديم استمرارية هذه الدورة.
- مواقف العمال تجاه العمل:
يهدف العديد من العمال اليابانيين إلى الكمال في مهامهم، وغالباً ما يسعون للحصول على نتيجة 120% رغم أن 100% نتيجة كافية في مهمتهم. فيؤدي هذا الموقف الكمالي إلى ساعات عمل أطول. حيث يبذل العمال جهدًا إضافيًا لتجاوز التوقعات، حتى عندما يشير المشرفون إلى أن مثل هذا الكمال المنشود غير ضروري.
- مطالب أنانية للعملاء:
تساهم طلبات العملاء أيضًا في زيادة ساعات العمل. غالبًا ما يشعر العمال بأنهم مجبرون على الاستجابة لطلبات اللحظة الأخيرة، بغض النظر عن مدى استعجال الزبون على الطلبية. بناءً على الاعتقاد بأنه من الطبيعي تلبية احتياجات العملاء على الفور. هذا الأمر يؤدي إلى تعطيل جداول العمال وتمديد ساعات عملهم أثناء تعاملهم مع المهام الأصلية بعد تلبية طلبات العملاء إضافية.
المعايير الثقافية والإنتاجية للعمل في اليابان
إن ثقافة الشركات في اليابان تمجد النجاح الجماعي على حساب التميز الفردي، مما يعزز الشعور بالواجب والتضحية بين الموظفين. ومع ذلك، فإن هذه العقلية لا ينجم عنها بالضرورة إنتاجية و مردودية أعلى. فعلى الرغم من ساعات العمل الطويلة، تحتل اليابان المرتبة الأدنى من حيث الإنتاجية بين دول المجموعة السبع. و هي أمريكا بمؤشر إنتاجية 68.3، و فرنسا بمؤشر 67.5، و ألمانيا بمؤشر 66.6، و إيطاليا بمؤشر 53.6، و الولايات المتحدة بمؤشر 52.4، و كندا بمؤشر 50.8، بينما تحتل اليابان المرتبة الأخيرة بمؤشر 45.5، مما يسلط الضوء على ضرورة الفصل بين الجهد والكفاءة.
المبادرات الحكومية لموازنة ساعات العمل
استجابة لهذه التحديات، وضعت الحكومة اليابانية مبادرات مختلفة. بدءًا من أيام الإجازة الإلزامية المتمثلة في أخذ خمسة أيام سنويا كحد أدنى. وحتى برنامج أيام الجمعة المميزة، التي تهدف إلى حث الموظفين على مغادرة العمل مبكرًا على الساعة 3 بعد الظهر في يوم الجمعة الأخير من كل شهر. حيث تهدف هذه الجهود إلى تعزيز التوازن بين العمل والحياة. ومع ذلك، لا تزال المقاومة الثقافية مستمرة. لأن التركيز المجتمعي على الانسجام الجماعي لا يشجع الأفراد على أن يكونوا أول من يغادر. مما يؤدي إلى استمرار ساعات العمل الطويلة. كما أن اقتصاد اليابان في خطر، فقد فقدت مرتبتها الثانية عالميا كأكبر قوة اقتصادية عالمية لصالح الصين عام 2011. و لكي تحتوي هاته المشكلة لجأت لساعات العمل الإضافية .
الضرورات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية
هناك تحديات أوسع نطاقا تواجه اليابان و التي تتجاوز الأعراف الثقافية. فمع شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد، تتقلص القوى العاملة. يتوقع أنه بحلول عام 2065، سينخفض عدد سكان اليابان بنحو الثلث، الأمر الذي يستلزم حلولاً مبتكرة و ناجعة. تتمثل هذه الحلول في استيراد اليد العاملة من ناحية، و استخدام الروبوتات و التكنولوجيا من ناحية أخرى. في حين توفر الروبوتات حلولاً محتملة و محورية، فإن سياسات الهجرة المحدودة و الصعبة لدى اليابان تحد من تنوع و استجلاب اليد العاملة. مما يفرض المزيد من التحديات.
التكنولوجيا كحلول مستقبلية
تتجه اليابان بشكل متزايد إلى الروبوتات لمعالجة النقص في العمالة لديها، مع ابتكارات تغطي قطاعات مختلفة من الضيافة إلى التصنيع. بل إن صناعة الروبوتات المتقدمة في البلاد تعمل على توسيع نطاق وصولها إلى مجال الزراعة. مع إنشاء الروبوتات القادرة على حلب الأبقار. وتهدف هذه التطورات التكنولوجية إلى الحفاظ على الإنتاجية وسط تقلص اليد العاملة. مما يسلط الضوء على التزام اليابان بالاستفادة من التكنولوجيا لحل التحديات الديموغرافية التي تواجهها.
و على الرغم من الوعد الذي تحمله الروبوتات لدعم الناتج الاقتصادي، فإن ما إذا كانت التكنولوجيا وحدها قادرة على تحسين التوازن بين العمل والحياة للعمال اليابانيين نظرية تظل غير مؤكدة. في حين أن الروبوتات قد تقلل من بعض العمل اليدوي والمتطلبات التشغيلية. إلا أن القضايا الثقافية والنظامية التي تدفع العمل الزائد لا تزال قائمة.
في نظركم هل يمكن لإدماج الروبوتات أن يخفف بالفعل من ضغوط العمل الزائد ويساهم في خلق ثقافة عمل أكثر صحة وتوازنًا في اليابان؟
اقرأ أيضاً: نصف مدن اليابان تواجه خطر الاختفاء!
إعداد و تقديم Somaya Chan لمزيد من المحتوى المقدم من الكاتبة، بالإمكان الانضمام لمجموعتها الخاصة عبر فيسبوك.
صورة المقال الرئيسية:
Image by Vilius Kukanauskas from Pixabay
شكرا على المعلومات القيمة أنا أخباركم بجدية.
شكرا جزيلا على المعلومات القيمة.