يعرف الشعب بالياباني بالعزلة وتقديره الخصوصية. وأحيانا ما يتم وصفهم بأنهم انطوائيين أو متوحدين، ولكن الشخصية اليابانية تختلف تماما عن اضطراب التوحد، وهو اضطراب نمائي عصبي يظهر في الطفولة. وقد نجحت اليابان مؤخرا في تطوير أساليب خاصة وطرق فعالة في تحسين مصابي التوحـد، بجانب تقديم نظرة شاملة عن هذا الاضطراب بشكل عميق بقلم فتى ياباني مصاب بالتـوحد. فما هو طيف التوحـد؟ وكيف يُنظر إليه في اليابان؟ وما الذي قدمته اليابان لعلاج هذا الاضطراب؟
طيف التوحد
التوحـد هو اضطراب نمائي عصبي يظهر في الطفولة، حيث يُعرف بأعراض كثيرة شائعة تشترك بين جميع المصابين، كالرغبة في العزلة والانسحاب والصعوبة في التفاعلات الاجتماعية والتعبير عن المشاعر، وعدم التواصل البصري، بجانب السلوكيات النمطية والروتين المتكرر. وبرغم أن للتوحد أعراض مميزة، إلا أن المصابين يختلفون في درجاتها، بجانب أن هناك بعض الأعراض التي لا يشترط أن تتواجد في جميع المصابين، مثل عدم القدرة على الكلام، الذعر، الوسواس، نوبات الغضب، سلوك إيذاء النفس، إعادة نفس الكلمات، التأتأة (التقاط الكلمات)، الإحجام عن ملامسة الجلد، فرط بالحساسية السمعية، الرغبة في التواصل بطرق غير لفظية (كالكتابة مثلا) لذلك يكونون بمفردهم معظم الوقت.
سبب اضطراب التوحد
من المفهوم أن النظرية السببية المعتمدة في اليابان فيما يتعلق بالتوحد تسبب أعراضًا مختلفة بسبب اضطرابات “وظائف المخ” أو مشاكل “وراثية”، ويقال إن السبب غير معروف، كما أنه لا يوجد علاج نهائي، وعلى المصابين الاعتماد على مختلف الاطباء والمتخصصين وإعادة التأهيل، والأهم هو تلقي الحب والدعم من معارفهم والمقربين لهم.
يعتبر البعض أن سبب اضطراب طيف التوحـد “تلف الدماغ” أو “مشكلة وراثية”، لكن البعض لا يؤيد هذه النظرية، ويقال أن التـوحد هو “تلف الأعصاب اللاإرادية. حيث يتم إنتاج المكملات الغذائية التقليدية لاضطراب طيف التوحـد بناءً على نقطة البداية وهي أن السبب هو تلف الدماغ أو الأعصاب اللا إرادية، أي أن ليس لها أي تأثير التوحـد نفسه، ولكن على النوم أو أعراض الجهاز الهضمي والعصبي وحدها.
المشروب الصحي “ياماتو نو إيزومي” في اليابان
يتم البحث عن طرق وعلاجات مختلفة لاضطراب طيف التوحـد، والتوحـد عالي الأداء (الدرجة الثالثة)، ومتلازمة أسبرجر (أحد أشكال التوحـد الخفيفة)، وADHD (اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط)، وLD (صعوبات التعلم) في جميع أنحاء العالم. على الرغم من عدم وجود علاج نهائي، اكتشف أحد العلماء باليابان أن سبب الأعراض المختلفة مثل اضطراب طيف التوحـد يعود إلى “تلف الأعصاب اللاإرادية”، ونجح في إيجاد حل للقضاء على أعراض الاضطرابات السابقة، فإذا تم تنشيط الجهاز العصبي اللاإرادي سيتم إصلاح تلف العصب اللاإرادي وستختفي أعراض اضطراب طيف التـوحد تقريبًا، وقد تبنى مشروب ياماتو إيزومي هذا المبدأ.
أمل جديد
أصبح مرض التوحـد الآن أكثر عرضة للشفاء، ففي عام 2024، حصلت إحدى المستشفيات اليابانية على نتائج سريرية لثلاثة أطفال مصابين بالتوحد تم شفاؤهم على التوالي نتيجة للعلاج المستمر. أصبح من الممكن علاج الأطفال المصابين بالتوحد بطريقة سهلة يمكن إجراؤها في المنزل، وفي مارس 2024، بدأ علاج امرأة مصابة بالتوحد تبلغ من العمر 25 عامًا. وأظهرت النتائج أنها تعافت بشكل حاد بعد ذلك. لذلك يتوقع العلماء المزيد من النتائج في المستقبل، ويعتقد أن سبب التـوحد هو “تلف الأعصاب اللاإرادية”، واحتمالية شفاء أي طفل قد زادت في وقت لاحق تاريخ.
جينات التوحد
وعلى الرغم من الأبحاث السابقة، فقد أظهرت دراسات حديثة أن الجينات المشاركة في تعديل الكروماتين ونسخ الجينات تشارك في التسبب في اضطراب طيف التـوحد. ولمعالجة هذه الفجوة العلمية، سعى باحثون من جامعة جونتيندو وريكين وجامعة طوكيو في اليابان إلى تقديم إجابة لهذه التناقضات.
قام الفريق بتطوير وتحليل سلالة من الفئران المعدلة وراثيًا لديها طفرة إطارية تحاكي نقص جين
معين مرتبط بالتوحد. ثم قاموا بإجراء تحليلات سلوكية مختلفة. حيث لاحظوا فيها أن الفئران المتحولة أظهرت انخفاضًا في التفاعل الاجتماعي، وعدم المرونة، وفرط الحساسية السمعية، وضعف الإدراك، وهي كلها أعراض مرتبطة باضطراب طيف التـوحد.
كما اختبر الباحثون تأثيرات عقار “فافيديمستات”، والذي يمكنه تحسين هذا الاضطراب، ووجدوا أن العقار يحسن العجز الاجتماعي لدى الفئران الطافرة وكان له تأثير إنقاذي استثنائي من خلال تغيير مستويات التعبير. وظهر أن هذا العقار ممكن أن يساعد في العلاج.
إن ما يميز هذا الاكتشاف هو أنه يتحدى الاعتقاد السائد بأن إعاقة طيف التـوحد قد لا يمكن علاجها، وتفتح النتائج الأبواب أمام البحوث المستقبلية لتعزيز الأساس للعلاج الدوائي لاضطراب طيف التـوحد وغيره من اضطرابات النمو العصبي.
اضطراب التوحد، والعزلة اليابانية
طُرح سؤال في عام 2023 من قبل علماء بريطانيين: هل الحياة أسهل بالنسبة للأشخاص المصابين بالتوحد في اليابان؟ إن حجتهم واضحة، فإن العديد من السلوكيات التوحدية هي نسخ مبالغ فيها قليلاً من السلوكيات الشائعة في المجتمع الياباني. ونتيجة لهذا، قد يكون أداء الأشخاص المصابين بالتـوحد أفضل في اليابان مقارنة بالمجتمعات الغربية لأنهم يُنظر إليهم على أنهم “مختلفون قليلاً فقط” عن القاعدة الثقافية. وبالمقارنة مع غير المصابين بالتـوحد، فإن الأفراد المصابين بالتـوحد أقل ميلاً إلى التحدث وأقل ميلاً إلى مشاركة المعلومات الشخصية. ويبرز هذا النمط من التحدث (أو عدم التحدث) باعتباره غير عادي في السياقات الغربية، على الرغم أنه شائع باليابان.
كما يشعر العديد من الأفراد المصابين بالتوحد بعدم الارتياح عند التواصل البصري المباشر. وهذا يضع المصابين بالتـوحد في وضع غير مريح في أغلب المجتمعات الغربية، حيث يرتبط التواصل البصري بالانفتاح والصدق.
ولكن في اليابان، يتجنب الناس في كثير من الأحيان التواصل البصري لأن النظر المباشر غالباً ما يرتبط بالغضب أو عدم القدرة على الاقتراب. ومن غير المستغرب أن يتم تعليم الأطفال اليابانيين النظر إلى رقبة شخص آخر، وليس وجهه.
بالاضافة الى ذلك، لا يحب العديد من الأفراد المصابين بالتوحد أن يتم لمسهم جسدياً، وخاصة من قبل الغرباء. ويمكن قول الشيء نفسه عن العديد من اليابانيين، وإن كان بدرجة أقل. ففي اليابان، نادراً ما يعانق الناس بعضهم البعض ويميلون إلى الشعور بعدم الارتياح عندما يلمسهم شخص لا يعرفونه. ويتم أداء التحية التقليدية في اليابان ــ الانحناء على سبيل المثال ــ دون لمس.
في هذه المرحلة، يبدو أن الإجابة على السؤال هي نعم على الأرجح. فالحياة أسهل بالنسبة للأشخاص المصابين بالتـوحد في اليابان لأن العديد من السمات السلوكية المميزة للتوحد “تتوافق مع أسلوب الحياة الياباني” ، لذا يتواجد توافق ثقافي جيد بين المجتمع الياباني وطيف التـوحد.
التوحد في المجتمع الياباني
وعلى الرغم من ذلك، فإن معدل التوحد في اليابان ــ نحو طفل واحد من كل 55 طفلاً ــ أعلى بنحو الضعف من المعدل في العديد من الدول الأخرى بما في ذلك الصين والمملكة المتحدة. (ويقال إن معدل انتشار التـوحد في الولايات المتحدة يبلغ طفلاً واحداً من كل 44 طفلاً، وهو أحد أعلى المعدلات في العالم).
في المجتمع الياباني ثقافة صارمة (على عكس الثقافة المتساهلة) تؤكد على التوافق مع المعايير الاجتماعية واللياقة الاجتماعية. قد يتصرف الأشخاص المصابون بالتوحد بطرق يُنظر إليها على أنها مزعجة وغير مهذبة وفقًا للمعايير اليابانية الصارمة. نظرًا لأن الأشخاص المصابين بالتوحد غالبًا ما يكافحون في قراءة العقول – فهم أفكار الآخرين ومشاعرهم ونواياهم – فإنهم أحيانًا يفسرون معاني الرسائل بشكل غير صحيح عندما يتفاعلون مع اليابانيين. ونتيجة لذلك، ووفقًا لإحدى الدراسات، فإن التوحد يُوصَم بدرجة أكبر في اليابان مقارنة بالولايات المتحدة.
التوحد في الأدب
هل تعرف شخصية بوكيمون الشهيرة؟ مؤلفها “ساتوشي تاجيري” المصاب بالتوحد. الجدير بالذكر أن التوحد في عالم الفن يختلف تماما عما يوجد بالواقع، فالتوحد ليس مقترنًا دائما بالعبقرية، وليس من السهل دائما أن يجد وظيفة ويعمل كأي شخص، بجانب أنه يواجه صعوبات كبيرة يعجز الكثير عن وصفها.
ومن هنا جاء دور الفتى الياباني “ناووكي هيغاشيدا” الذي حول صمت التوحد إلى صوت. حيث قام بتأليف كتابه (لهذا السبب أقفز) وهو بعمر 13، ليصف معاناة التوحد ويشير إلى أن التوحد ليس بالمشوار السهل على أهل المتوّحد أو على من يتولون العناية به.
وجه ناووكي في تمهيد لكتابه دعوة للقيام برحلة في عالم التوّحد، بعد أن عرفنا أنه لم يعرف أنه مختلف إلا من خلال ما قاله الناس، وشرح عن عجزه عن القيام بالأشياء العادية، ويقول إنه لو “نُظر ببساطة الى التوّحد على أنه نمط من أنماط الشخصية لأصبحت الأمور أسهل لنا، ولكنا أسعد مما نحنا الآن”.
ويحاول ناووكي في كتابه أن يقدم ويشرح طريقته، ما يدور في خلد المتوّحدين، ويأمل أن تؤدي قراءة الكتاب إلى بناء صداقات أمتن مع المتوحّدين. وتتوالى الأسئلة والأجوبة التي قد تتبادر الى ذهن القارئ حول المتوّحد في حياته اليومية وعاداته وتصرفاته وقدراته فيستفيض بالشرح والإجابة، فيتحدث عن طريقة النطق والتفكير والحركة لدى المتوّحد، كما يغوص في أعماق مريض المتوّحد فيتحدث عن مشاعره تجاه الآخرين وأهله، ويلفت الى ناحية مهمة وهو حب الطبيعة والتمشي في الطبيعة لدى المتوحد. كما أظهر ناووكي أن التوّحد يقدر كثيراً صحبة أناس آخرين، لكن صعوبة التواصل تجعله ينزوي، كما يحزن لتسببه بإرهاق الآخرين.
إعداد و تقديم جنة الجندي لمزيد من المحتوى المقدم من الكاتبة، بالإمكان متابعة صفحتها الخاصة عبر فيسبوك.
صورة المقال الرئيسية:
Photo by Aedrian Salazar on Unsplash