يرمز السيف إلى القوة والبطش. وإلى روح الانتماء والشرف بالنسبة إلى محارب الساموراي. لكنّ الأسطورة “مياموتو موساشي” الذي اشتهر بطريقته الفريدة بالمبارزة بالسيف في اليابان خلال حقبة إيدو التاريخية، كان له نظرة أخرى ليس فقط بالنسبة إلى السيف بل إلى الحياة بأجملها! حتى أصبح معروفاً بحكمته وفلسفته العميقة في الحياة.
تاريخ ونشأة مياموتو موساشي
بحسب ما ورد لدى المؤرخين؛ ولد “مياموتو موساشي” في عام 1584 بمنطقة قديمة كانت تدعى هيغو. وهي اليوم تعرف باسم محافظة كوماموتو في جزيرة كيوشو. في ظلّ ضراوة الحرب الأهلية لعائلة ساموراي يابانية في قرية “مياموتو”. فارقت والدته الحياة بعد ولادته بفترة بسيطة. وقد تولّى والده الساموراي المخضرم “شينمين مونيساي” مسؤولية تعليمه فنّ استخدام السيف. حينها أظهر “موساشي” موهبة فاقت التوقعات منذ عمرٍ صغير.
وسطع نجمه كمحارب شهير وفنان مبدع في أوائل حقبة إيدو التاريخية والتي تعرف أيضاً باسم “فترة توكوغاوا”. الممتدة بين عام 1603 وحتى عام 1868.
رحلة “موساشي” مع السيف
بدأ موساشي مسيرته كمقاتل في سن مبكرة. وقد عاش بعيداً عن أبيه الذي عُرِف بقساوته فحالت الخلافات بينهما. حظي “موساشي” بمبارزته الأولى في عامه الـ13 حيث طرح منافسه أرضاً بعد ثوانٍ بسيطة من بداية المبارزة ويقول البعض بأنه قتل أول خصومه في نفس العمر! وكان هذا غيضاً من فيضِ براعته التي تابع حياته في صقلها. وفي عام 1600، كان يقاتل إلى جانب الطرف الخاسر في معركة سيكيغاهارا (التي مهدت الطريق لإقامة شوغونية توكوغاوا) ، وأصبح مقاتل رونين (ساموراي بلا سيد). ومع مرور الوقت، شرع في رحلة لتطوير تقنية سيف مثالية. وابتكر فن “نيتو إيتشي ريو”، وهو أسلوب المبارزة بسيفين. ويشار إليه اليوم غالباً باسم 剣聖 “كينسيه” أو (قديس السيف). تروي الحكايات عن “موساشي” أنه قد خاض أكثر من 60 قتالًا فرديًا بالسيوف، وكثير منها كان حتى الموت وفاز بها جميعا.
حدثت مواجهة “موساشي” الأكثر شهرة عام 1612. وذلك ضد خصمه اللدود “ساساكي كوجيرو”، وهو سياف يُقال أن مهارته تضاهي مهارة “موساشي” نفسه. جرت المبارزة على جزيرة صغيرة قبالة سواحل اليابان. وبينما كان يتم يبحر إلى موقع المبارزة، صنع موساشي سيفًا خشبيًا من مجداف. وعندما التقى الخصمان أخيرًا على الشاطئ، أسقط “موساشي” “كوجيرو” بضربة قوية على رأسه باستخدام سيفه الخشبي. بعد ذلك، شعر موساشي بأنه وصل إلى ذروة إتقانه للسيوف، فتقاعد عن مبارزات الحياة والموت، على الرغم من أنه درب بعض الطلاب وساعد في قمع تمرد شيمابارا عام 1637.
رحلة عميقة في عالم الفن
بحسب ما ورد عنه، كتب “موساشي” عمله الشهير عن الاستراتيجية – “غورين نو شو” (كتاب الخواتم الخمسة) والذي يتناول الخبرة القتالية بشكل فردي وعسكري. وبعد ترجمته الأولى إلى الإنجليزية عام 1974، تمت دراسة الكتاب بجدية في الغرب لفهم أفضل لتقنيات واستراتيجيات الإدارة اليابانية.
وكان موساشي فنانًا ماهرًا في “سويبوكو-غا” أو “سومي-ئي” (الرسم بالحبر الأحادي). حيث رسم بأسلوب قوي ومباشر باستخدام عدد قليل من الضربات. يُشتهر بشكل خاص بلوحاته للطيور، مثل “كوبوكو ميكاكوزو” (“العصفور الجالس على شجرة ميتة”) و “روزانزو” (“الأوز البري بين القصب”).
العمق الفلسفي مع السيف
هل يمكن لرمز القوة أن يجتمع مع الحكمة؟ كيف يمكن أن يشق السيف طريقاً نحو الفلسفة؟! تساؤلات كثيرة وردت حول اندفاع “موساشي” نحو العمق الفلسفي وعالم الكتابة الأدبية. إنّ التغيرات والتحديات التي طرأت على شخصية “موساشي” منذ نعومة أظفاره، دفعته إلى التأمل في الماضي، والنظر إلى محيطه الحاضر، وتخيل شكل المستقبل.
مرّ “موساشي” بظروف صعبة كما أسلفنا منذ صغره. وتعلم من الدروس القاسية والتجارب الحياتية الصعبة التي جعلت منه أكثر حكمةً في التعامل مع الحياة. وهذا أساس العمق الفلسفي الذي وصل إليه مع تنامي خبرته في المؤلفات الأدبية. وذلك على الرغم من خبرته الطويلة في المبارزة بالسيف.
كما كان وَقْعُ المبارزة مع “ساساكي كوجيرو” وأثرها كبير وبارز على شخصية “موساشي”. حيث زاد إدراكه في مدى أهمية التفكير الاستراتيجي والقدرة على التكيف وفهم بيئة الفرد. وهذا أمر لا يقل أهمية عن البراعة البدنية في المعركة.
وأظهر اختيار “موساشي” سيفاً خشبياً بدلاً من السيف الفولاذي إيمانه بالمهارة والاستراتيجية على الأسلحة التقليدية.
فتجسدت ذروة عمقه الفلسفي في كتابه Dokkōdō (دوكودو) أو كما يعرف بالعربية (طريق الوحدة). الذي يعبر عن نظرة صارمة وصادقة وزاهدة للحياة. وشرح فيه فهم الذات القائم على فهم الآخرين والعالم. كما تطرق في كتابه عن أسلوب المحارب. حيث أكد على أهمية الانضباط والاحترام والسلوك الأخلاقي في الفنون القتالية والحياة. ونشر في كتابه تعاليمه الخاصة الداعية إلى اليقظة والعيش بشكل كامل في الوقت الحاضر.
تأثير فلسفة “موساشي” في العصر الحديث
لفلفسة “موساشي” تأثير بالغ الأهمية على فنون الدفاع عن النفس. كما تؤثر فلسفته على استراتيجيات الأعمال الحديثة والقيادة والتنمية الشخصية. وأصبحت أعماله الأدبية رمزاً من رموز المرونة. حيث ترمز رحلة حياة “موساشي” إلى المرونة والتعلم المستمر والسعي لتحقيق التميز مهما كانت الظروف.
رحيل الأسطورة
توفي “مياموتو موساشي” بسبب ما يعتقد أنه سرطان الصدر. وذلك بعد الانتهاء من تأليفه كتاب Dokkōdō (“طريق المشي بمفردك” أو “طريق الاعتماد على الذات”). الذي أصبح مصدراً ملهماً في الإدارة والقيادة وضبط النفس للأجيال اللاحقة.
موساشي لم يكن صانعا للسيوف وإنما مبارزا لا يشق له غبار. المبارزة مع كوجيرو لم تكن قوية ولا طويلة بل كانت الضربة الأولى هي القاضية. سبب صنعه لهذا السيف الخشبي يتمثل في كون كوجيرو يستعمل سيفا طويلا أوداتشي المناسب لتقنيته الشهيرة تسوبامي ڤايشي وبالتالي احتاج لسيف أطول حتى يتفاداه ويغلبه. يعبر عن هذا في فن المبارزة بمفهوم
Maai
بالفعل! شكرا على تعليقك سيد أمين