أسرد لكم قصتي عن الوفيات في اليابان. حيث لاحظت في صبيحة كل يوم، وأثناء توجهي إلى الجامعة أسير في نفس الطريق وتقع عينايّ على نفس البيوت والأشجار والحدائق وكذلك المقابر. أجل، المقابر! لصغر المساحات المأهولة قد يذهلكم إن أخبرتكم أنّ في حيّي وحده توجد 4 مقابر. اثنان منهما يقعان بالقرب من بوابات الجامعة!
في مدينة عمّان الجميلة، حيث كنتُ أقطن، تقع مقبرة سحاب المشهورة في مكان قصيّ, يشعر زوارها بهيبة الموت. وتترك تلك الرهبة المألوفة بأن الحياة مهما بدت لنا دائمة وخالدة، في يومٍ ما ستنتهي حتماً. لكن هنا في أوساكا وغيرها من المحافظات اليابانية المختلفة تشكل المقابر جزءاً أساسياً من الأحياء السكنية. ولا يمكن أن يمضي يومك دون أن تمر بإحداها.
لدرجة أن الوقوف في الشرفة صباحاً (في بعض الأحياء المكتظة من طوكيو) يعني أن تستفتح يومك بذلك اللون الرمادي الذي يصبغ أحجار وشواهد القبور!
في إحدى المرات، أخبرني عجوزٌ ياباني بأنه عندما يُولد الياباني تُقام له طقوس احتفائية بحسب عقيدة الشنتو. وفي فترة لاحقة يتزوج في الكنيسة لكن عندما يموت فإنه يتم حرق جسده بحسب العقيدة البوذية. وعملية الحرق هذه تطال 99.4% من وفيات اليابان! لكن هل تنتهي الطقوس البوذية عندما يتحول الجسد إلى رماد مدفون تحت الأرض؟
الطقوس مستمرة حتى بعد الوفاة!
أثار هذا التساؤل فضولي وبدأت أبحث عن مراسم الجنازة وتكاليفها. وأول ما وجدت كان خبر إطلاق شركة ياهو اليابان في صيف 2014 خدمة التخطيط للموت. حيث خصصت الشركة بوابة تمكنك من تقدير كلفة الجنازة وتحضير الوصية بالإضافة إلى العثور على مقبرة.
ليس هذا فحسب؛ فمبجرد تأكد وفاة المستخدم المسجل يتم إغلاق حسابه على موقع ياهو وحذف جميع البيانات المتعلقة به. بالإضافة إلى إرسال بريد إلكتروني إلى 200 عنوان بريدي كحد أقصى يُعلمهم بوفاة ذلك الشخص. ويعطيهم الفرصة بترك رسائل وداعية للميت. كل هذا مقابل اشتراك قيمته أقل من دولارين شهرياً.
لكن ما أهمية هذه الخدمة؟
وفقاً لدراسة أجرتها جمعية المستهلكين اليابانية عام 2008، يبلغ متوسط تكلفة الجنازة قرابة 2.3 مليون يناً أي ما يقارب 21 ألف دولاراً! وتشمل هذه التكلفة، التي تعتبر من الأعلى في العالم، 3660 دولاراً لتقديم الطعام للحاضرين وقرابة 5000 دولاراً مقابل خدمات الراهب البوذي!
لهذا السبب، يتوجب على المُعزين المساهمة في تخفيف العبء المالي عن أهل الميت، بإعطاء مظروف يحتوي على مبلغ يتراوح بين 50-200 دولاراً بحسب درجة قربهم من الميت. وفي المقابل، وبعد عدة أشهر، يتوجب على أهل الميت إرسال هدايا قيمتها مساوية لثلث المبلغ المُقدم إلى المعزين.
اسم جديد في عالم الأموات
أكثر ما لفت انتباهي إيمان اليابانيين أنه بمجرد أن يحترق جسد الميت فإن روحه تنطلق إلى عالم الأموات. ولضمان عدم عودته إذا قام شخصٌ ما بمناداة اسمه، تقوم عائلة المتوفى بدفع آلاف الدولارات –في بعض الحالات أكثر من 10 ألف دولار- إلى المعبد البوذي ليتم منح الميت اسماً بوذياً جديداً يعمل على قطع صلته تماماً بحياته السابقة.
ويعتمد طول الاسم واختياره على حجم التبرعات التي قدمتها عائلة الميت إلى المعبد! كما أنّ انتهاء مراسم الجنازة تعني بداية لسلسلة طويلة من المراسم التذكارية التي تُقام في اليوم السابع، اليوم 49 وهو اليوم الذي تصل فيه الروح باعتقادهم عالم الأموات.
السنة الأولى، السنة الثانية وغيرها حتى السنة 33 بعد الوفاة! يُذكر أن هذه المراسم التذكارية مهمة لتوجيه الروح في رحلتها باتجاه الجنة ويتم إحياؤها من قبل الرهبان البوذيين حيث يُقدم بعضهم خدماته طوال 33 سنة مقابل 7500 دولاراً فقط!
الاعتماد على التقنية في خدمات الجنائز
ارتفاع تكاليف الجنازة دفع راهباً بوذياً في طوكيو إلى تقديم خدمة هاتفية لطلب راهب. حيث يعمل إلى جانب 45 راهباً على تقديم خدمات متعددة بأسعار مخفضة مقارنةً بالمعابد البوذية ودور الجنازة.
على سبيل المثال، يقدمون خدمة الجنائز مقابل 800 دولاراً فقط. ومع قلة المساحات المتبقية للدفن وارتفاع أسعارها لتصل في بعض الأحيان إلى 40 ألف دولار، ظهرت فكرة تحويل المخازن القديمة إلى مقابر بحيث يتم حفظ رماد المتوفين في رفوف.
وعندما يحين موعد زيارة المتوفى، تقوم عائلته بمسح بطاقة خاصة في جهاز قارئ البطاقات والذي يعمل على تفعيل ذراع روبوتية تقوم باسترداد الجرة الصحيحة ووضعها في منطقة الحداد. في هذه المنطقة تعرض شاشة الكمبيوتر صوراً للشخص المتوفى، جنبا إلى جنب مع مجموعة من الزهور.
بالإضافة إلى نافورة مياه ترافقها الموسيقى الهادئة. وللأشخاص الذين يتكبدون عناء الرحلات الطويلة لزيارة مقابر أجدادهم، قدمت شركة I-Can في طوكيو فكرتها المبتكرة وفقاً لما ورد في صحيفة جابان تايمز. والتي تتيح زيارة القبر بشكل افتراضي وعبر شاشة الكمبيوتر لمستخدميها؛ حيث يقف شاهد القبر في حقل أخضر وبإمكان الزائر باستخدام الأيقونات المتاحة رش الماء على القبر، وإشعال البخور، وكذلك تقديم باقة من الزهور.
وفي مجتمع حيث يفوق معدل الوفيات معدل الولادة، ويحمل الأحياء عبء الأموات لسنين طويلة، هل سيستمر اليابانيون في إقامة شعائرهم التقليدية المكلفة أم سيجدون حلولاً اقتصادية جديدة؟ أما عني، كلما مررت بالمقبرة سأذكر كم عمل الميت بجد ليستطيع تحمل ثمن دفنه!
الكاتبة: جهاد محمود
طالبة دكتوراة أردنية مبتعثة في أوساكا، أحب السفر والاستكشاف ومتعة التجارب الجديدة
حساب الكاتبة على فيسبوك:
https://www.facebook.com/Jihad.MahmoudJp
شكرا جهاد
استمتعت جدا بالمقال
الحمدلله على نعمة الاسلام
و جزاك الله خيراً يا دكتورة
أغبطك على تواجدك في اليابان . سوف أكون مستمتعة لقراءة المزيد من مقالاتك
عشت في اوساكا من عام 1975 لغاية عام 1982 وحصلت على الماجستير والدكتوراه في هندسة الاتصالات من جامعة اوساكا ، ولكن لم افكر لحظه واحده في البحث عن موضوع الموت والمقابر في اليابان….الحياه والاستمتاع بها كانت أهم من الموت والمقابر .
اللهم اكتب لنا أن يكون قبرنا في بقيع الغرقد
بالمدينه المنورة بجوار رسولنا الكريم
الحمد لله على نعمة الاسلام ونرجوا ان يكون في اليابان اعداد كبيرة من من ينقلون الاسلام وروحه وتعاليمه الصحيحة
طقوس رهيبة مثل حرق جثة الميت و غيرها
من الامور الاخرى مثل تكاليف الجنازة المرتفعة.
الحمد لله على نعمة الإسلام .هل العلم والتطور الذي حققه الإنسان كفيل لهدايته في الحياة والموت ؟
أغرب ماسمعت عن الموت والدفن وهذه الخزعبلات الغريبة المراسيم الدفن وتكلفتها الباهظة هذا عيب يحسب لليابان
موضوع ملفت للنظر والمقابل سلس جدا احببته
شكرا استمتعت كثيرا بهذا قراءة هذا المقال….أتمنى لك التوفيق
الحمد لله على نعمة الإسلام
وشكرا لكي يادكتورة
تكاليف باهضة رغم انه يتم حرق الجثة .
الشي الاخر تاثير وجود التكنولوجيا في اليابان حتى بعد الموت بطائق اليكترونية لكل رماد جثة .
عندنا باليمن لاتكلف الجنازة اكثر من 100دولار واحيانا اقل .
شكرا للكاتبة على تسليط الضوء على جانب قلما يتطرق له من يزور البلدان الاخرى
مقال جميل مليئاً بالمعلومات المفيده والجديده شكراً على المقال
لطالما كانت اليابان الافضل
مراسم الدفن لمن إستطاع إليه سبيلا
الحمد لله على نعمة الإسلام فيها معلومات نافعة
شكرا على المقال دكتوره ساعدني على التعرف أكثر على عادات و معتقدات اليابان
كل معتقد وله اسلوبه لانتتدخلً في معتقدات الاخرين
جزاك الله خير على المقال المفيد ونسأل الله ان يهدي شعب اليابان ويهدينا الى صراطه المستقيم
كل شعب حر في معتقداته الدينية ونحن نحترم معتقدات الاخرين
لكل تقاليده وعاداته ….. لكن تكلفة الموت هكذا تزيد عبئا على اهله …..تبقى التقاليد الانسانية متنوعة دائما وان بدت لنا غريبة …… كل الاخترام
الحمد لله على نعمة الاسلام. وسبحان الله رغم تطورهم إلا يوجد اشياء لا تدخل المنطق ولا الدين.
كتابة مميزة وممتعة
مقالة جميلة جدا. عاشت إيدك. بس كنت احب ان تتحدث أكثر عن شكل القبور و هيئة المقبرة بصورة عامة
نظرتهم للموت وطقوسه تختلف عن بقية الشعوب
تكلفة الجنازة مرتفعة جدا في اليابان مقارنة بدول اخرى
عادات فريدة ومميزة
تكاليف الوفاة اصبحت باهضة الثمن يجب التقليل منها