يعد معهد «ريكن» للأبحاث في اليابان منارة العلوم التي دفعت بالبلاد من عصر التقليد الصناعي إلى عصر الابتكار والريادة. وهو الشرارة الأولى التي شغلت إمكانات الكمبيوتر الياباني وحولته إلى عملاق صناعي في عدة عقود فقط.
في هذا المقال سنتعمق أكثر في تاريخ المعهد الذي لا ينال الكثير من الشهرة حول العالم. ونناقش أبرز الصعوبات التي واجهها في خلال سنوات نشأته وسنوات الحرب العالمية الثانية. وما هي أبرز المساهمات العلمية التي قدمها لليابان وثم للعالم.
ولادة معهد ريكن (Riken)
“لتحويل البلاد من التقليد إلى القوة الإبداعية، ليس هناك بديل سوى تعزيز البحوث في الفيزياء والكيمياء، ولهذا يجب علينا إنشاء معهد للبحوث الفيزيائية والكيميائية”.
كلمات كتبها رجل الصناعة والأعمال الياباني الراحل «إيئيتشي شيبوساوا» خلال عام 1917 لتوضيح الغاية من وراء إنشاء معهد «ريكن» للأبحاث.
حيث كان «شيبوساوا» أحد الداعمين الأوائل لفكرة تأسيس مركز أبحاث خاص باليابان، على غرار مراكز الأبحاث في ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، لتتمكن البلاد من مجاراة الدول الصناعية الكبرى في حينها.
ولنعد بالزمن إلى الوراء قليلاً.. جمع «شيبوساوا» 120 شخصاً من مختلف المجالات والصناعات الخاصة والعامة في مطعم بالعاصمة طوكيو عام 1913 لمناقشة الفكرة.
ألقى في حينها العالم الياباني «جوكيتشي تاكامينيه» الذي اكتشف هرمون “الأدرينالين” قبلها بـ12 عاماً، خطاباً ليشدد على أهمية تأسيس مركز وطني للأبحاث. وفي خطابه ذكر أن العالم بدأ يتحول من التصنيع الميكانيكي إلى التصنيع العلمي الذي يستخدم الفيزياء والكيمياء.
ولد بعدها بسنوات معهد «ريكن»، بالتحديد في 20 مارس 1917. وذلك بفضل التعاون بين مئات العلماء ورجال الصناعة في اليابان ودعم «إيئيتشي شيبوساوا» نفسه الذي حرص على أن يتم تأسيس المعهد على الرغم من الصعوبات الكبيرة آنذاك.
ويجدر بالذكر هنا أن اسم «ريكن – Riken» جاء من اسمه الياباني الرسمي والأطول “ريكاغاكو كينكيوشو – 理化学研究所”، والتي تعني مركز أبحاث علوم الفيزياء والكيمياء.
السنوات الأولى والصعوبات المالية
بعد فشل العلماء في الحصول على تمويل من الحكومة اليابانية في حينها، قصد مؤسسو «ريكن» القطاع الخاص لتأمين التمويل. حيث تمكنوا من جمع ما يقرب 2 مليون ين لبدء المشروع وتشغيل المعهد.
تحولت المنظمة من مشروع وطني كبير إلى منظمة خاصة صغيرة في طوكيو بسبب مصاعب التمويل. وثم واجهت المنظمة الوليدة آنذاك مخاطر الإغلاق بسبب نفاذ مالها جراء الاضطرابات الاقتصادية التي جلبتها الحرب العالمية الأولى.
ريكن ملاذ العلماء والعلوم
واجه المعهد مستقبلاً مظلماً وكاد أن يُغلق بالكامل. ولكن الحرب العالمية الأولى انتهت في 1918 وتحسن الاقتصاد العالمي تدريجياً. وهو ما اشترى وقتاً ثميناً للمعهد دون تحقق أمر إغلاقه الكامل.
تنفس المعهد الصعداء بعد تعيين رئيسه الثالث «ماساتوشي أوكوتشي» عام 1921، والذي امتلك رؤية ذكية وطموحاً كبيراً. وتمكن من تحويل المعهد الصغير إلى مؤسسة علمية يُحسب لها ألف حساب.
قام «أوكوتشي» بإعادة هيكلة المعهد بالكامل عبر إلغاء النظام القديم الذي أقيم عليه المعهد وأسس نظام جديد. وتحت ذلك النظام (والذي يوجد حتى يومنا هذا)، قسمَ المعهد إلى عدة مختبرات بحثية. وكل مختبر منها لديه كبير العلماء الخاص به الذي يُدير الأبحاث والموظفين والميزانية بالطريقة التي يراها مناسبة.
وبالإضافة لذلك، أسس مجموعة من الشركات الخاصة في اليابان والتي كان هدفها هو تحويل الاختراعات العلمية للمعهد إلى منتجات تجارية مفيدة. كان دور تلك الشركات كبيراً، كونها حافظت على تدفق المال من أجل إجراء المزيد من الأبحاث. وفي ذروته، امتلك المعهد أكثر من 60 شركة مختلفة عملت على تحسين المجتمع بالاختراعات والابتكارات التي تولد من أفكار علماء «ريكن».
تسببت رؤية «أوكوتشي» العبقرية في خلق ملاذ وجنة للعلماء والعلوم داخل اليابان. وهو ما أكده العالم الياباني الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء النظرية «شينئيتشيرو توموناغا» في أحد خطاباته.
خلقت رؤية «أوكوتشي» كذلك، جيلاً جديداً من العلماء في اليابان تتلمذ داخل مختبرات المعهد. والجيل الذي ولد دفع البلاد إلى أعالٍ جديدة بابتكاراته. وحقق تقدماً ملحوظاً في العلوم مما جعل اليابان قوة صناعية حقيقية تنافس كبار الدول.
سنوات الحرب العالمية الثانية
بعيد اندلاع الحرب العالمية الثانية وسيطرة النظام اليميني المتطرف في اليابان على الحكم، واجه المعهد تحدياً جديداً يتمثل بالاستحواذ على خبراته وعلومه وتركيزها على الجهد العسكري.
حيث طُلب من «ماساتوشي أوكوتشي» أن يبدأ العمل على مشروع يتضمن تطوير قنبلة ذرية. بمساعدة علماء الفيزياء النووية في المعهد وعلى رأسهم الفيزيائي «يوشيو نيشينا» (والذي يُلقب بمؤسس الأبحاث الفيزيائية الحديثة في اليابان). بدأ المعهد بالعمل على المشروع، وأصبح في ما بعد هدف عسكري للقاصفات الأمريكية التي دمرت ثلثيه بغاراتها خلال أبريل 1945.
انتهت الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945 بعد القصف الذري لهيروشيما وناغاساكي. وخلال سبتمبر استسلمت اليابان بشكل غير مشروط وتمكنت القوات الأمريكية من الاستحواذ على المشروع الذري الياباني بعد إجراء تحقيقات فيه.
لم تتوقف القوات الأمريكية عند ذلك الحد، بل دمرت أيضاً مشاريع علمية أخرى كانت قيد التطوير في المعهد. إذ دمرت أجهزة تسريع جزيئات استغرق العلماء نحو 10 سنوات في ابتكارها، وألقت بها في مياه خليج طوكيو.
نــــــهـــــايــــة ريـــــكــــن
كانت الحرب العالمية الثانية مأساوية لجميع من شاركوا فيها، ولكنها كانت أكثر قسوة على المعهد. حيث ألقت القوات الأمريكية القبض على «ماساتوشي أوكوتشي» عام 1948 بحجة أنه “مجرم حرب”. ولكنها أطلقت سراحه لاحقاً ومنعته من قيادة المعهد مجدداً.
فككت الولايات المتحدة المعهد بالكامل وكاد أن يُغلق لولا تدخل العالم الأمريكي “هاري سي. كيلي” والذي كان صديقاً شخصياً للعالم الياباني «يوشيو نيشينا».
أعيد افتتاح المعهد كشركة خاصة عام 1948 تحت قيادة «يوشيو نيشينا». وتغير اسمه من “Riken” إلى “KAKEN”. وواجه سنوات قحط شديدة بسبب ضعف التمويل والضغوطات التي مارستها القيادة الأمريكية لمنع العلماء من أداء أبحاثهم.
ويجدر بالذكر هنا أنه على الرغم من الصعوبات العديدة التي واجهها المعهد. تمكن العالم «هيديكي يوكاوا» من الحصول على أول جائزة نوبل لليابان على الإطلاق في عام 1949. وذلك بفضل دراسته في معهد «يوشيو نيشينا» للفيزياء النظرية.
ولادة المعهد مجدداً ووصله إلى مكانة عالمية
عاد المعهد إلى اسمه الأصلي خلال 1958، وتمكنت الحكومة اليابانية آنذاك من منحه مكانة جديدة وجعلته شركة عامة. وفي عام 1967 احتفل المعهد بذكراه الـ50. وانتقل إلى مساحة أكبر وأسس مختبرات جديدة وعادت الأبحاث فيه إلى ما كانت عليه وأفضل من السابق.
استمر المعهد بالتوسع حتى أسس مختبرات عدة لأبحاث الفيزياء والجينات والبايولوجيا وعلوم الضوئيات والحواسيب الخارقة والكمّية والجينوم البشري والروبوتات وغيرها الكثير. وتوسع المعهد أكثر مع بداية الألفية ليؤسس وحدات بحثية خارج اليابان كذلك.
وخلال عام 2003، تحول المعهد إلى إدارة مستقلة وخاصة تتبع لوزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتكنولوجيا اليابانية. وثم تحول إلى معهد أبحاث وطني بصورة رسمية وبتمويل حكومي في عام 2015. وذلك يعني أن المعهد أصبح له مكانة أفضل من سنوات قبل الحرب وله استقلالية كبيرة في أمور الأبحاث والعلوم.
حيث احتفل المعهد في عام 2017 بذكراه الـ100. وأثبت جدارته كمؤسسة علمية دفعت اليابان في السراء والضراء إلى الأمام وجعلتها من أقوى الدول الصناعية حول العالم.
بعض مساهمات ريكن العلمية
طور المعهد بالتعاون مع مؤسسات علمية أخرى أول نظام للتكييف في اليابان عام 1923. بعد اختراع مادة جديدة تدعى “أدوسورو” وهي مادة تمتص الرطوبة.
طور المعهد كذلك نوع جديد من الفولاذ عام 1917، أطلق عليه في حينها “KS Steel”. وهو فولاذ مغناطيسي دائم يتمتع بمقاومة مغناطيسية أكبر بثلاث مرات من فولاذ التنغستن.
ولمعهد «ريكن» كذلك باع طويل في عالم الفيتامينات، حيث اكتشف أحد علمائه فيتامين “B1” أو “الثيامين”. وهو فيتامين وعنصر غذائي لا يمكن صُنعه في الجسم. يوجد في الطعام ويتم تصنيعه تجارياً ليكون مكملاً غذائياً أو دواء. والثيامين ضروري لعملية التمثيل الغذائي.
وبالإضافة لما ذُكر، ساهم المعهد في التوصل إلى العديد من الاكتشافات العلمية في مجالي الفيزياء والكيمياء. وطور أول حاسوب كمّي في اليابان، وساهم بتطوير أحد أسرع الحواسيب الخارقة كذلك. وطور العديد من المنتجات الطبية في اليابان التي ساهمت في إنقاذ الأرواح.
كما أضاف عنصر جديد للجدول الدوري في عام .2016 أطلق عليه اسم “نيهونيوم”، وهو أول عنصر كيميائي يكتشف بواسطة البحث العلمي من قارة آسيا.
مقال رائع ، والترجمة العربية ممتازة
مساهمات معهد ريكن في مجال العلوم والتكنولوجيا كبيرة نتمنى لهم المزيد من الازدهار في المستقبل