على عكس ما يتم نشره باستمرار من صور برّاقة عن صناعة الأنمي في اليابان، نغوص في قلب الكواليس لاستعراض الجانب المظلم والذي يكاد يكون مخفياً عن أنظار عشاق الأنمي لمعرفة الصورة الواقعية لهذه الصناعة.
لقد غيرت صناعة الأنمي حياة جيل بأكمله في نهاية التسعينات بالقرن الماضي. وأصبحت هذه الصناعة مصدراً للإلهام والشغف منذ بث أولى حلقات أنمي “سيلور مون” في الولايات المتحدة التي أصبحت فيما بعد من أكبر الأسواق العالمية المهتمة بكل ما يتعلق بالأنمي. ومع مطلع القرن الواحد والعشرين، زاد الاهتمام والشغف مع قراصنة “ون بيس” الباحثين عن الكنز الأسطوري، وكذلك رحلة “آش كيتشام” النبيلة لصيد جميع البوكيمونات!
قاد العرض الأول لهذه المسلسلات الكلاسيكية والعديد غيرها إلى رواج كبير للأنمي. ففي الفترة ما بين عامي 2002 و 2017، تضاعفت صناعة الرسوم المتحركة اليابانية لتتجاوز قيمتها 19 مليار دولار أمريكي سنويًا. على الرغم من النجاح الباهر الذي يحققه الأنمي عالميا، إلا أنه يخفي خلفه واقعا اقتصاديا مريراً. فالعديد من رسامي الأنمي الذين ينتجون أعمالهم السحرية التي نراها على الشاشة، يعانون أوضاعا ماديةً صعبةً وظروف عمل قاسية قد تؤدي إلى الإرهاق الكامل وحتى الانتحار!
يشكل التناقض بين هيكلية صناعة الأنمي القاسية والمثالية الفنية الكامنة فيه معضلة كبيرة. حيث يضطر الرسامون إلى تحمل أشنع أشكال الاستغلال من أجل تقديم فن راقٍ، دون أي حلول تلوح في الأفق.
مشكلة العمل القسري في صناعة الأنمي
إن الرسومات بأعمال الأنمي بشكل عام، تُرسم تقريبا بالكامل يدويا. يتطلب هذا العمل مهارة فائقة لتقديم تحريك سلس إضافة إلى الخبرة لإنجازه بسرعة.
على سبيل المثال، “شينغو أداتشي”، رسام ومصمم شخصيات لسلسلة الأنمي الشهيرة “Sword Art Online”، صرح بأن نقص المواهب يمثل مشكلة جدية ومستمرة. حيث يُنتج نحو 200 مسلسل أنمي تلفزيوني سنويًا في اليابان فقط. ولا يوجد عدد كافٍ من رسامي التحريك المهرة لتلبية هذا الطلب. ونتيجة لذلك، تعتمد الاستوديوهات على مجموعة كبيرة من العاملين المستقلين الذين يعملون لحسابهم الخاص وبدون أجر، بدافع شغفهم الكبير بالأنمي.
في البداية، نجد الرسامين المتوسطين (In-between animators) الذين يعملون عادةً كـ “مستقلين”. وهم من يقومون برسم كل تلك الرسومات الفردية. وذلك بعد أن يضع المخرجون الرئيسيون لوحات القصة ويقوم الرسامون الأساسيون (Key Animators) برسم الإطارات المهمة في كل مشهد. وللتوضيح أكثر، يقوم الرسامون المتوسطون برسم الإطارات البينية بين كل إطار رئيسي. بحيث يتم ضمان استعراض رسومات الأنمي بشكل سلس مع ملء الفراغات بين إطارات المشاهد الرئيسية التي يرسمها الرسامون الرئيسيون. مع الحرص على أدق التفاصيل بكل مشهد، مع الأخذ بعين الاعتبار خصائص كل شخصية وأسلوبها عند الرسم والتحريك.
أجور متدنية وساعات عمل طويلة
يكسب الرسامون المتوسطون نحو 200 ين لكل رسمة، أي أقل من دولارين. قد لا يبدو الأمر سيئًا للغاية إذا كان بإمكان كل فنان إنهاء 200 رسمة في اليوم. لكن رسمة واحدة فقط يمكن أن تستغرق أكثر من ساعة! ناهيك عن الاهتمام الدقيق الذي يشتهر به الأنمي بالتفاصيل التي يتم تجاهلها إلى حد كبير في الرسوم المتحركة الغربية. مثل الطعام والهندسة المعمارية والمناظر الطبيعية الخلابة. والتي يمكن أن تستغرق وقتًا أطول بأربع أو خمس مرات من متوسط وقت رسمة عادية.
وأضاف “أداتشي” خلال لقاء صحفي: “حتى لو تقدمت في المجال وأصبحت رسام إطارات رئيسية، فلن تكسب الكثير. وحتى لو حقق عملك نجاحًا كبيرًا، مثل مسلسل أنمي هجوم العمالقة، فلن تحصل على أية مكاسب مادية تذكر. إنها مشكلة بنيوية في صناعة الأنمي. لا يوجد حلم [وظيفة كرسام] في ظل هذا النظام.”
ظروف العمل في هذه الصناعة قاسية للغاية. فمن الشائع رؤية رسامي الأنمي نائمين على مكاتبهم من شدة الإرهاق. حيث صرح “هنري ثورلو”، وهو رسام أمريكي يعيش ويعمل في اليابان، لموقع BuzzFeed News أنه دخل المستشفى عدة مرات بسبب أمراض ناتجة عن الإرهاق.
أحد أشهر الاستوديوهات في مرمى الانتقادات
وُوجهت اتهامات لاستوديو مادهاوس (Madhouse) بمخالفة قانون العمل، حيث كان الموظفون يعملون لما يقارب 400 ساعة شهريًا. ولم يحصلوا على إجازة لمدة 37 يومًا متتالياً على حد ما ورد بالاتهامات. كما تم تصنيف انتحار أحد رسامي التحريك في عام 2014 على أنه حادث مرتبط بالعمل بعد أن كشف المحققون أنه عمل لأكثر من 600 ساعة في الشهر الذي سبق وفاته!
تلجأ الاستوديوهات إلى الرسامين المستقلين (العاملين بالعمل الحر) جزئيًا لتجنب قيود قانون العمل. وبما أن العاملين المستقلين هم متعاقدون مستقلون، يمكن للشركات فرض مواعيد نهائية مجهدة. مع توفير المال من خلال عدم تقديم مزايا إضافية.
فأعمال الأنمي عموماً تستغرق وقتاً طويلاً لإنتاجها. لأن العمل بحد ذاته دقيق للغاية! لأن المشهد الواحد يتطلب 3 إلى 4 رسامي تحريك من أجل العمل عليه. حيث يقوم رسام بالعمل على الرسومات الأولية. ثم يقوم رسامون آخرون بمراجعتها. وبعد المراجعة تتم إعادتها مجدداً من أجل التنقيح. ثم بعد ذلك يتم إرسالها للرسام الوسيط الذي يقوم بالعمل على الرسومات النهائية.
وللأسف، استمر الوضع المتدهور للرسامين لدى عدة أعمال أنمي أخرى. حتى بعد دخول شركات غربية مثل نتفلكس في مجال عرض أعمال الأنمي. وكذلك المنصات عبر الإنترنت.
الحل الأنسب للرسامين ليس بسيطاً
الحل ليس بسيطًا مثل مطالبة الرسامين المتحركين برواتب أعلى. حيث كشف تقرير صادر عن Teikoku Databank لعام 2016 أن الإيرادات انخفضت بنسبة 40% على مدار 10 سنوات بالنسبة إلى 230 استوديو تحريك ياباني رئيسي. وجاء في التقرير: “من أجل تحقيق مزيد من التطوير لصناعة الرسوم المتحركة ، هناك حاجة ماسة إلى تحسين القاعدة الاقتصادية للرسامين. وإصلاح جذري لهيكل أرباح الصناعة بأكملها”.
بصفته مؤسس لاستوديو صغير اسمه “دارت شتايجو”، أوضح “ثورلو” أن فرض رواتب أعلى دون تغيير أكبر في هيكل الصناعة سيؤدي إلى إفلاس استوديوهاته ومعظم الاستوديوهات الأخرى بسبب قيود الميزانية. ستتوحد الصناعة في “عمل أنمي ضخم”، وهو عالم تنتج فيه استوديوهات عملاقة قليلة أفلاما ناجحة على غرار هوليوود، مع تسويق شامل ومحتوى عام مخصص لأقل القاسم المشترك.
اقرأ أيضاً: استوديو ماد هاوس | أشهر 10 أفلام ننصح بمشاهدتها
مع خروج رسامي التحريك منخفضي المستوى من العمل، فإن الروح الإبداعية والعاطفية للأنمي ستتآكل. بعد كل شيء ، لا يوجد سبب يدعو للعمل كرسام حركة بخلاف حبك له.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال صناعة الأنمي، بالإضافة إلى تقنية توليد الصور عبر الحاسوب (CGI)، لاتزال صناعة الأنمي تحتاج لإعادة هيكلة من أجل تحسين وضع الرسامين لضمان استمرار الروح الإبداعية. ولكن حتى ذلك الحين، سيبقى الوضع على حد وصف “ثورلو” أشبه بنظام هرمي حيث تعمل الأكثرية في القاع، من أجل دعم الأقلية في القمة. وبهذه الهيكلية، لا يمكن رؤية مستقبل مشرق. على حد تعبير “ثورلو”.
اقرأ أيضاً: خسائر ضخمة بسبب مواقع قرصنة المانغا والانمي
صورة المقال الرئيسية:
Image by qiaominxu 橋茗旭 from Pixabay